الصبر ميزان الشدة والعقل بوصلة النقاش
الإنسان في رحلة الحياة لا يمر بنعيم دائم ولا بشقاء مقيم؛ بل يتنقل بين المحطات، وفي كل محطة يظهر جوهره الحقيقي، وتنكشف صفاته الأصيلة، ولعل أصدق مقياسين لعمق الشخصية ورصانتها هما الشدة والنقاش، فالأول يكشف عن قوة النفس ومتانتها، والثاني يبين ثراء العقل واتزانه.
الشدة: محك الصبر الأصيل
يقول الحكماء: "في الشدة يقاس الصبر". إن الحياة الهادئة والظروف المواتية لا تطلب منا جهدا كبيرا في التحمل، لكن عندما تشتدّ الرياح وتتراكم المصائب، يصبح الصبر ليس مجرد فضيلة، بل هو آلية نجاة، الصبر ليس في التنهد بصمت، بل هو قوة داخلية هادئة تقاوم الانهيار.
في أتون المحنة، يُفرَز الناس فرزا طبيعيا؛ فمنهم من يجزع ويستسلم للهم، ومنهم من يلبس ثوب الرضا الجميل، هذا الصنف الأخير هو من يمتلك الصبر الأصيل؛ الذي يرى في البلاء فرصة للتطهير والارتقاء، ويحول الألم إلى وقود للمضي قدما، إن الصبر هنا هو حكمة الإدراك بأن كل ضيق إلى اتساع، وأن بعد العسر يسرا، إنه الاختبار الحقيقي لإيمان الفرد وثبات قلبه، فمن يجتاز هذا المحك يخرج أقوى نفسا وأكثر حكمة.
النقاش: مرآة العقل الراجح
أما في الجانب الآخر، فنجد أن "في النقاش يقاس العقل"، إن العقل الحكيم ليس هو العقل المخزن للمعلومات فحسب، بل هو العقل القادر على التفاعل البنّاء مع الأفكار المختلفة، النقاش ليس ساحة حرب كلامية الغرض منها الانتصار لرأي شخصي، بل هو لقاء ذهني يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة أو على الأقل الاقتراب منها.
مقياس العقل الراجح في النقاش يتمثل في عدة أمور:
سعة الأفق: القدرة على الاستماع بإنصات وتقدير وجهات النظر المخالفة دون تعصب.
رصانة الحجة: تقديم الأدلة والبراهين بوضوح ومنطق، بعيدا عن الصوت العالي والانفعال.
مرونة التفكير: استعداد الشخص لتغيير رأيه أو تعديله إذا تبين له الصواب في كلام الطرف الآخر.
إن الشخص الذي يقيس عقله في النقاش هو من يخرج منه وقد أضاف جديدا إلى معرفته، سواء اقتنع به أو لم يقتنع، المهم أنه احترم العملية العقلية،ث هذا العقل هو البوصلة التي تهدي صاحبها نحو الحقيقة، لا المطرقة التي يسعى بها لتهشيم آراء الآخرين.
في الختام، لا يمكن الفصل بين الصبر والعقل، فكلاهما صنوان يُكمل أحدهما الآخر، إن الشخص الذي يصبر في الشدائد هو غالبا من يمتلك عقلاً ناضجا يدرك سنن الكون والزوال. والشخص الذي يتناقش بعقلانية وهدوء هو من يمتلك صبرا على سذاجة الطرح أو جهل المخالف.
إن الشدة تُقوّم النفس وتصقلها، والنقاش يُقوّم العقل ويوسعه، فلننظر دائما إلى الشدائد كفرص لقياس صبرنا، وإلى النقاشات كآليات لوزن عقولنا، وحينها فقط نكون قد تعلمنا كيف نحيا بقلوب ثابتة وعقول متفتحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق