الخميس، 17 ديسمبر 2015

قسنطينة عاصمة الثقافة العربية في العصر العثماني

قسنطينة عاصمة الثقافة العربية في العصر العثماني    د. عمرو عبد العزيز منير (كاتب وأكاديمي مصري ) ، جامعة أم القرى بمكة المكرمة.

لا زالت الحقبة العثمانية من تاريخ الجزائر مجهولة بعض الجوانب ، وتعاني قلة المصادر التي نطمح إليها في الوقت الذي اعتنى الغربيون بالرحلات التي قام بها تجارهم وقناصلهم ومغامروهم إلى الجزائر ذات التاريخ الجهادي العريق ما بين مطلع القرن 16 وبداية القرن 19 ، كما اعتنوا عناية خاصة بما كتبه أسراهم . وهو ما دفع المؤرخ الجزائري النابه مولاي بالحميسي إلى تقديم صورة عربية للجزائر المجاهدة من خلال رحلات المغاربة في العهد العثماني الذين وصفوا الجزائر ودونوا أخبارها وتحدثوا عن شعبها ، واثنوا مرارًا على كرم القوم وحسن ضيافتها وما الخبر كالعيان .
ويأتي الرحالة المغربي أبو الحسن على بن محمد  التمقروتي ( المتوفى 1003 / 1594 ـ 1595م)  من أوائل الرحالة الذين ارتحلوا إلى الجزائر في الحقبة العثمانية بعد أن كلفه الحاكم المغربي أحمد المنصور بمهمة السفر إلى عاصمة الخلافة العثمانية استنبول في سنة 1589م فخرج من مراكش ونزل بتطوان ثم أبحر مارًا أو نازلا ببعض المدن الساحلية الجزائرية واستمر السفر إلى أن عاد التمقروثي إلى تطوان في شهر نوفمبر 1591م وسجل السفير انطباعاته وملاحظاته في كتاب سماه " النفحة المسكية في السفارة التركية " واعتنى بطبعها ديك استري معتمدًا على النسخة الوحيدة الموجودة في المغرب الأقصى ثم نقل إلى الفرنسية الكثير منها ، وتحدث التمقروثي عن الجزائر في ذهابه وإيابه ولذا نجد معلومات تهم البلاد من الصفحة 12 إلى الصفحة 19 ثم من الصفحة 76 إلى 86 من الطبعة الحجرية  .
ثم يأتي الرحالة المغاربي أبو سالم عبد الله العياشي المالكي المولود بقبيلة آيت عياش قرب تافلالت وتنقل في المشرق الإسلامي وعواصمه طلبًا للعلم وكان محدثًا وصوفيا وعالمًا وشاعرًا ، له منظومة في البيوع وأخرى في التصوف واشتهر برحلته " ماء الموائد" وضمنها أخبارًا وحوادث مختلفة شاهدها أو سمعها أثناء أسفاره وأهم ما فيها وصف طريق الصحراء والسكان والعوائد وأحوال المعاش والأمن والحديث عن العلماء والدين وأتعاب المسافرين ، ورغم الاستطرادات الطويلة فإن للرحلة قيمة لفتت أنظار المستشرقين الذين نقلوها كاملا أو جزئيًا وأثنوا عليها .
وقد خصص العياشي صفحات عديدة في الجزأين من كتابه للجنوب الجزائري ولمدنه ولعلمائه ولتاريخه . وفي عام 1093 / 1683 قدم إلى الجزائر بحرًا الرحالة المغاربي أبو عبد الله محمد بن القاسم بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد ابن زاكور الفاسي .. أديب ورحالة وشاعر ، ولد بفاس سنة 1075هـ على الأرجح ، قدم إلى الجزائر للاجتماع بعدد من علماء المدينة والأخذ عنهم واستجازتهم " مروياتهم ومؤلفاتهم" وحصل على الإجازات التي كانت آنذاك بمثابة الشهادات العلمية ثم عاد إلى تطوان ، ومن بين أساتذة ابن زاكور في الجزائر : الشيخ محمد بن سعيد قدورة الذي أجاز رحالتنا في رجب 1094هـ / 1684م. وتسمى رحلته " نشر أزاهير البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان " وهى رحلة قصيرة ( 69 صفحة ) بقيت مجهولة مدة طويلة إلى أن طبعت في الجزائر سنة 1319هـ / 1902م. وجاء في المقدمة :" ألقت هذه الرحلة أضواء على التعاون الثقافي بين المغربين الأقصى والأوسط وأضافت حلقة جديدة إلى سلسلة الروابط العديدة التي تشدهما شدًا وثيقًا."
والرحلة تنقسم إلى قسمين متساويين تقريبًا ؛ فالأول خاص بالجزائر وعلمائها وطرق التدريس بها والثاني حديث مطول عن تطوان ومشايخها وضم هذا الكتاب أشعارًا كثيرة في مختلف الفنون .
ثم نجد الرحالة المغربي الوزير أبو القاسم بن أحمد بن على الزياني آخر من ارتحل إلى الجزائر في عهد السلطان مولاي عبد الله وقد رافق الزياني والديه لأداء فريضة الحج ودام هذا الغياب عامين ، وفي طريق العودة مر بمدينة لفورن Livourne بإيطاليا حيث مكث أربعة أشهر ينتظر مركبًا ثم أرغم هو وأهله على السفر برًا مارًا بمرسيليا وبرشلونة إلى أن دخل المغرب . ثم عين الزياني كاتبًا بالقصر الملكي ومكنته بعض الحوادث الداخلية من أن يبرهن على مهارة سياسية ومقدرة إدارية حتى قربه مولاي محمد بن عبد الله وكلفه بعدة مهام مثل التفاوض مع القبائل المتمردة . وفي سنة 1200/1786 عين لسفارة إلى اصطنبول والسلطان العثماني آنذاك ، عبد الحميد فخرج الزيارني مارًا بمقالة وتونس واستقبل في عاصمة العثمانيين استقبالا رسميا وأقام هنالك نحو ثلاثة أشهر . وعند العودة إلى فاس استأنف أعماله ونشاطه متنقلا من منصب إلى آخر أعلى منه . ونزل الزياني بوهران ضيفًا على الباي محمد الكبير ثم التحق بتلمسان وقضى مدة طويلة بين علماء هذا المصر ثم قصد الجزائر فأكرمه أهلها وحكامها . وبعد أيام خطر له أن يزور اصطنبول مرة ثانية ، فبدأ رحلته مارًا بقسنطينة وتونس . وجال في المشرق بين عواصمه إلى أن عاد إلى الجزائر قادمًا إليها عن طريق تونس وقسنطينة فوجد الترحاب والضيافة والمساعدة . وكان يفكر وهو في الجزائر أن يستقر بتلمسان غير أن ضغوطًا وإلحاحات عديدة من المغرب جعلته يغادر مكانه المحبوب العباد وجوار سيدي أبي مدين الغوث ويرجع في النهاية إلى بلاده . وتوفى الزياني في رجب 1249/1833 بعد حياة طويلة ونكبات عديدة لم تمنعه من تأليف رحلته " الترجمانية الكبرى" التي جمعت أخبار العالم برًا وبحرًا وما تخللها من الأمصار ، والمدن والقرى والقفار ، والبحر والجبال والأنهار ، والعيون والمعاجن والآبار ، وغير ذلك من عجائب خواص الحيوانات والأحجار ، وما يريد ذاك من تفسير والآثار ، ونوازل الفقه ولغة العرب وشواهد الأشعار .
وهى رحلة إلى اسطنبول وفهرسة ومختصر جغرافية وموسوعة صغيرة ضمت أخبارًا عديدة في مختلف الفنون والمواضيع وخصص عدة صفحات للجزائر وقد حققها عبد الكريم الفلالي سنة 1387/ 1967 تحقيقًا طفيفا ينقصه الكثير.
أما مدينة قسنطينة في الشرق الجزائري التي وقع الاختيار عليها الاختيار لتكون عاصمة الثقافة العربية لهذا العام فقد تمتعت بمكانة ثقافية وتاريخية في الوجدان الجزائري والمغاربي على حد سواء فأسهب الرحالة في وصفها باعتبارها خلاصة لحضارة الإنسان في شكل مدينة.. ومدينة تتقاطع بين شوارعها ثقافة العالم كله.. وهل الثقافة إلا محطات تقاطع ولقاء بين تجارب تختصر الزمان والمكان فوق صخرة من الكلس في هذه العاصمة التي تمردت عن التاريخ بحروبها الطويلة وعن الجغرافيا بموقعها الاستثنائي .. سيحدثك الرحالة حين رووا ظمأ نفوسهم وخلوا إلى أقلامهم وريشاتهم, وجرت انطباعاتهم السحرية خبباً على أفراس الرواية والوصف والملاحظة والإبداعات الفنية والأدبية التي شكلت اللبنات الأساسية لصورة الجزائر وقسنطينة في أدب الرحلات .

ستحدثك أقلامهم عن قصور البايات الأتراك وعن المعمار العثماني .. وتحدثك موسيقى "المالوف" عن الأندلس .. وتحدثك روائع مالك حداد عن الأدب في زمن الفرنسيين.. وستجد نفسك أمام مزيج ثقافي صنعه الأمازيغ والرومان والعرب واليهود والأتراك والأوروبيون.. وتلونت روحه بالإسلام الذي حول قسنطينة إلى مركز إشعاع ديني ومنحها اليوم لقب المدينة المحافظة بامتياز بين كل مدن الجزائر.  وفيها أقام الرحالة الزياني لمدة خمسة عشر يومًا ولقى بها عددًا من العلماء يدلنا على الحركة الثقافية والعلمية التي شهدتها قسنطينة  في العصر العثماني وقد وأظهر الرحالة الزياني سروره لهذا اللقاء الذي أنساه وحشته وزاد معلوماته وهم : الشيخ عمر الصايغي ، وأبو الحسن على بن مسعود الونيسي ، وأبو القاسم المختالي ، ,أحمد بن المبارك العلمي والسيد ونيس البورنيازي ، وكلهم أصحاب أدب وفقه وفضل وعلم ، غير أن أصحاب التراجم أهملوا الكثير منهم . وقد أشار الرحالة الزياني إلى العديد من مشاهدها الثقافية التي منحتها مكانتها العلمية منذ قرون عديدة واتفق أغلب الرحالة من مغاربة  ومستشرقين أن  قسنطينة تستقبل زائرها بمشاهد لن تجدها في أي مكان آخر.. كجسورها المعلقة التي لا مثيل لها عبر العالم.. من جسر القنطرة الذي أسسه الرومان قبل قرون بعيدة ، إلى جسر سيدي راشد الذي صممه المهندس الفرنسي أوبين أيرو في بداية القرن الماضي.. ستفاجئك أيضا قسنطينة بأبوابها الأثرية السبعة وبمساجدها التي يعود أقدمها إلى القرن الحادي عشر من الميلاد.. ستتعرف لأول مرة ربما على أسواق يسميها أهلها بالرحبات .. هناك رحبة الجمال وأسواق الخرازين و العطارين والصاغة و الصباغين.. وفيها يتجول السائر بين صفحات التاريخ لتتلاشى الفواصل بين الخيال والواقع وتنصهر القرون ما بين جسورها المعلقة التي تعكس آثارها عبقرية وروعة العمارة في قسنطينة وتتعجب .. من كان ليجرأ على بناء مدينة فوق صخرة من الكلس!! ..ومن هذا الذي قرر أن يشيد أعلى جسر حجري في العالم بين قمتي جبل!؟ تاريخ حي ينبض بالحياة شهد على أحداث العصور المتعاقبة ؛ لمسة جمال تنثر عبير الأزمنة المولية وتحرك في النفس حنينًا لدفء الماضي الذي يتناغم بإبداعه مع الحاضر  القصة لا تبدأ من هنا.. ولكنها تغوص بتفاصيلها في ما قبل التاريخ بقليل حين تفتحت أزهارها نحو ضوء الشمس فتصاعد شذاها ونشرت الرياح العطرة تحت سمائها الصافية وعكست أرضها البريق الذهبي للرمال  فتمتعت العيون برؤية المدينة العتيقة ليسبح العقل في أحلام ناعمة بين ربوع مدينة  قسنطينة الجزائرية عاصمة الثقافة العربية بجدارة. 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق