كتبت المقال الباحثة في التراث: عائشة بلبالي- ولاية أدرار-
يستقبل سكان ولاية
أدرار الشهر الفضيل من كل سنة على غرار باقي مناطق ولايات الوطن بابتهاج وفرحة
وبكل ما تحمله الكلمة من معنى،
كيف لا وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى في محكم تنزيله
بعد بسم الله الرحمن الرحيم: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من
الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام
آخر...) صدق الله العظيم. وللشهر الكريم مكانة كبيرة لدى الشعوب الإسلامية بصفة عامة ولدى سكان
منطقة أدرار بصفة خاصة، وهو مرتبط في العديد من الدول العربية بطقوس دينية مختلفة
منها : صلاة التراويح، قراءة القرآن، الاعتكاف في المساجد ... ، بالإضافة إلى
العديد من العادات والتقاليد تختلف من منطقة إلى أخرى مثل تبادل الزيارات والأكلات،
مساعدة بعض العائلات لنظيراتها من العائلات المحتاجة، وقد كان سكان المنطقة على
وجه الخصوص يستقبلون شهر رمضان الفضيل من كل سنة بشغف كبير بعد أن كانوا قد حضروا
له بداية من شهر شعبان كل ما بإستطاعتهم وبوسعهم (حسب إمكانات كل عائلة )، ومن بين
التحضيرات المطلوبة والأساسية في التحضير للشهر :
دقيق "زمبو" وهو طحين دقيق القمح المحمص ( الذي وضع في
بقايا النار التي تم إشعالها بعد أن أصبحت كالجمر ) وهذا بعد إعداد لذلك بعد
الحصاد بما يعرف بالشواطة أغلب سكان المنطقة المترامية الأطراف وإعداد والشعير
المغلي في ماء وملح، ويخصص دقيق زمبو لإعداد الحساء (الحريرة) وهي سيدة المائدة في
بيوت سكان المنطقة في رمضان.
السفوف: وهي مهروس التمر بعد فرزه ودقه في مهراس من خشب كبير ونزع النواة منه
ثم يضاف له مسحوق ألاقط (الجبن المجفف أو ما يسمى بالكليلة الذي كان سكان المنطقة
يجلبونها من الدول الجنوبية المجاورة ومالي والنيجر ... ) وبعض المواد النباتية التي
تختلف باختلاف الأقاليم بالولاية وهذا لتضفي عليها ذوق خاص. والسفوف مطلوبة في
المنطقة بكثرة وهي بدورها تسد الجوع وتشبع البطن وهي من بين المأكولات التي يحملها
المسافرين في زادهم قديما وإلى الآن.
اللحم القديد ( اللحم
المجفف ) : وهو اللحم المتبل بالملح والثوم والمجفف كان السكان يحرصون على تجفيفه
نظرا لعدم وجود آلة تبريد في الزمن القديم ، ويتم تقطيع اللحم على شكل خيوط (تسمى تشريح
اللحم) ويعلق على الحبل لكي يجف وقبل وضعه في قدر الطهي يجب نقعه في الماء لمدة من
الوقت وغسله بعناية ثم طهيه. كما أن السكان
كانوا يشترونه أو يتبادلونه (مقايضة) ببعض الحبوب والتمور مع القوافل المارة
بالمنطقة من هنا وهناك إلى دول الجنوب السالفة الذكر أو العائدة منها إلى المناطق
التي جاءت منها.
الختيم: وهو معجون مكون من دشيشة ( بقايا طحين) زمبو ومجموعة بقوليات مجففة
وأعشاب وحليب المواشي، تجمع كل هذه المكونات وتشكل على شكل خبيزات دائرية صغيرة ثم
تجفف لعدة أيام، و يدخل الختيم في
طهي الحساء (الحريرة) وهو أساسي في ذلك.
التوابل: ( لفاح أو
العطور أو رأس الحانوت( وهي من أساسيات المطبخ الأدراري
ولا يمكن الاستغناء عنها بتاتا، وهي أجزاء لمجموعة أعشاب ونباتات تتميز بالحرافة،
مشهية ذات نكهة و رائحة طيبة مثل القرفة، الزنجبيل، الريحان، الكمون، بذور القصبر...
تنتقى هذه المكونات من التوابل والنبتات وتطحن وتبقى جاهزة للاستعمال. وتدخل التوابل في طهي مختلف الآكلات بالمنطقة
وكذا تتبيل اللحوم الحمراء والبيضاء.
معجون التمر:
(البطانة( من بين التمور التي تصلح
لتحضير البطانة هي تمور الحميرة ( تلمسو)، تينقربوش، المسعودية، تزرزاي... يعجن أي
نوع من هذه الأخيرة بعد فرز الجيد من الرديء منه ثم يصب عليه الماء الساخن ويترك لمدة من الوقت ثم يوضع ويضغط في كيس من
جلد الماشية مع تخليله ببعض الأعشاب العطرية مثل إكليل الجبل ( اليزير) لإضفاء
نكهة خاصة عليه. يترك في مكان ساخن لأيام ويصبح بعدها جاهز للأكل.
السمن البلدي (دهن
الحر أو العرب ( و يستخرج من الحليب المحلوب من الشياه
وغيرهم من الضأن بعد خض في شكوة مصنوعة من
جلد الكباش أو غيرها من الضأن، ويصب في إناء وتفرز منه الكتل الحليب التي تجمعت
بفعل تحريك الشكوة، وتوضع فوق النار بحيث ينفصل الدهن عن الكتل، وتضاف له بعض الإعشاب
مثل إكليل الجبل ( اليزيز)... ويضاف لبعض الآكلات الشعبية.
كل هذه التحضيرات
وغيرها يقوم بها السكان قبيل الشهر الفضيل في جو جماعي مليء بالفرحة والبهجة وحتى
الصغار لهم نصيب من ذلك، كما انه توجد تحضيرات يقوم بها السكان في أيام شهر رمضان
الكريم نظرا لقلة وجود ما يقتات به ذلك الزمن الغابر من جهة و لعدم وجود آلة تبريد
لحفظ مأكولاتهم آنذاك من جهة أخرى.
وبدخول شهر رمضان
الكريم تصلى صلاة التراويح ليلة ثبوت رؤية
هلال شهر رمضان و يهنئ السكان بعضهم بعضا بقولهم : "مبروك علينا وعليكم سيدي
رمضان الله يجعل المعاودة بالخير " وتسير الحياة في الشهر الكريم من ناحية
النشاط كباقي الأيام تقريبا، إلا ما زاد من العبادات، و يمارس سكان بالمنطقة أعمالهم
المألوفة والمعتادة بحيث يستيقظون باكرا وبعد صلاة الفجر وبداية شروق الشمس يتجه
الرجال وبعض النسوة إلى البساتين ليقومون بأعمالهم الفلاحية من غرس وحصاد... وكذا
رعاية الماشية مع الحرص على أن
لا يتأخرون هناك نظرا لحرارة الجو بالمنطقة فيكون رجوعهم تقريبا متزامن ومنتصف
النهار. أما باقي النسوة فيبقين في منازلهن للقيام بأشغال البيت التي لا تنتهي،
فمنهن من تقوم بعملية الطحن ومنهن من تقوم بفتل الكسكسى ( تبركيش العيش) ومنهن من
تخبز الخبز في أنور ( أنا دائري كبير مصنوع من الطين ) أو على القلة وهي كذلك مصنوعة من الطين وحضرن
وجبات الإفطار . أما الأطفال فبرنامجهم يكون مسطر قبيل دخول الشهر في تحديد أوقات
الدخول والخروج وما يقدم لهم من طرف معلمهم القرآني ( السي الطالب) من قراءة
القران وحفظه و قراءة المتون الشعرية التي تحتوي على مدائح كالهمزية والبردة والبغدادي... وكذا حضور
المحاضرات والدروس للكبار والصغار على حد سواء. بعد
منتصف النهار والتي تنقطع فيها الحركة في الشارع نظرا لحرارة الشمس التي لا تطاق ويجتمع
النسوة في رواق ما يسمى في عرف المنطقة بزقاق، أو في مساحة كبيرة مخصصة للجلوس
والتجمع تسمى الرحبة، ومنهن من تنام في مدخل الرواق لتنعم بنسمات الهواء الباردة
النابعة من بواطن بيوتهم البسيطة المبنية بالطوب المحلي والمسقفة بألياف النخيل التي
تسمى الخشب، هذه العوامل تكسر حرارة الجو وتعطي برودة من باطن الأرض، وفي هذا الجو
اللطيف تنشغل النسوة كل واحدة
منهن بعمل، فمنهن من تقوم بصناعة السلالة ( النسيج بسعف النخيل) والأخرى تنسج في
المنسج وغيرها تصنع أواني الطين... وكلهن في فرحة وراحة بال تسع الكون وجو تجمعي
رائع، كما انه لا تخلو يد كل منهن من مروحة مصنوعة من سعف النخيل لتغيير الجو الساخن في الظهيرة، وكانوا كأنهن أسرة واحدة بقلب
واحد حديثهن بعيدا كل البعد عن القيل والقال والأمور التي لتعنيهن، حديثهن كان
يتمحور عموما حول ظروف السكان ومعيشتهم وكيفية صبرهم وتجلدهم وقناعتهم بعطاء
الخالق، وحديثهن كان روايات لمواقف جميلة فكاهية صارت معهن في حياتهن؛ حديثهن كان
شيق ولا يخلو من الفوائد التي يستخلصها الفرد بمجرد استمتاعه لها في تلك الجلسة
الحميمية الجميلة والتي تنسي عناء الصيام وشدة حرارة الجو ( اذكر يوم أن كنا صغار
حين نذهب لزيارة الجدة والجد رحمهما الله كان يوم شاق ومعلوم بالنسبة لهما زيادة
على الصيام ودرجة الحرارة كنا نقلق راحتهم بكثرة الحركة واللعب ندعو الله أن
يسامحنا على فعلنا.
أما الرجال ونظرا
لشدة الحرارة بالمنطقة فقد كانوا يعمدون إلى تجاويف الفقارات ( الفقارة سلسلة من
الآبار مرتبطة ببعضها ) التي تمتاز ببرودة طبيعية أفضل من برودة الآلات التبريد
الحالية، ومنهم من كان لديه دهليز ( مكان عميق بالمنزل) ينام فيه للتخفيف من شدة
الحرارة وطول يوم الصيام، وقبيل الآذان يحضر ما قسم الله (الجود بالموجود) أهم شيء
التمر أو السفوف ثم اللبن وبعد صلاة المغرب لا تخلو مائدة من موائد العائلات من طبق الحريرة بدقيق زمبو ( زلافة الحسا ). وبعد راحة ليست
بالطويلة يتهيأ الرجال للذهاب إلى المساجد لأداء صلاة التراويح والنساء يصلين
بالبيت إلا الأقلية منهن من تذهب للمسجد، وبعد كل هذا يأتي دور المتنفس بحيث يتجه
الرجال إلى كثبان الرمال الباردة أو مساحات قريبة من مساكنهم في وسط يجمع العائلة
والأقارب والجيران يتوسطهم موقد الفحم الذي له الشأن أن يحمل براد الشاي المحبوب
والمعزز لدى الساكنة والذي يعطي الجلسة الرمضانية الليلية نكهة وذوق يرد الروح في
جو من الإنسة والحكاوي تنسيهم مشقة الصيام ودرجة الحرارة التي عايشوها صباحا، و
النسوة ليلا شانهن كشأن الرجال في التجمع والاستئناس وتبادل الزيارات ناهيك عن
الأطفال الذين ليهدأ لهم بال وهم في جو من اللعب والمرح العامل الذي يبقيهم ساهرين
لساعات متأخرة من الليل دون شعورهم بالملل أو التعب.
بعدها يأتي وقت
السحور والذي يكون عادة بالسقوف أو التمر ... حسب الموجود بعد سماع دندنة الدندون (
رجل يضرب على الدف يعلم الناس بوقت السحور) أو ما يسمونه في بعض المناطق بأدرار بتكركبة
أو الفتيح، وفي العشر الأواخر يعمد جل السكان إلى الاعتكاف في المساجد من أجل
عبادة الله والتقرب إليه أكثر حسب ما جاء في السنة النبوية.
بهذه النفحات
الجمالية الإيمانية الروحانية التعبيرية التي تنمو عن حب الله والتقرب إليه
بالطاعات والعبادات ناهيك عن الفرحة الكبيرة بالشهر الفضيل يتعايش سكان المنطقة مع
هذا الأخير بكل حب وصبر وتحمل وجد وأمل كبيييييير على أن ينهون الشهر العظيم
المبارك بكل صحة وعافية وان تقبل
طاعاتهم وعباداتهم وصيامهم وقيامهم وان يعود عليهم الشهر العزيز سنوات وسنوات بطول
العمر والصحة والعافية بإذن الله، ويبقى للشهر الكريم من كل سنة وإلى اليوم نكهته
الخاصة ومكانته الكبيرة في قلوب
السكان بالمنطقة خصوصا ولدى الشعوب الإسلامية عموما.
تلكم هي يوميات
السكان الرمضانية في الزمن الجميل بالمنطقة والتي لا تزال إلى اليوم نفحاتها
الجميلة الخاصة في بعض القصور والمناطق الادرارية إلى اليوم، واهم ما يميزها
الفرحة والبهجة بالشهر الكريم برغم قلة ما يقتات؛ وبرغم حرارة الجو و الظروف
المعيشية الصعبة التي كانوا يعيشونها قديما، إلا أن هذا كله لم يكن يقف أمام
استقبالهم المميز للشهر الكريم.
تقبل الله منا
ومنكم الصيام والقيام وسائر الأعمال ودمتم سالمين.
المصدر جريدة التحرير الجزائرية ليوم 03 ماي 2020 العدد 1990 الصفحة 06
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق