يقف مقام الشهيد، بسعفاته الثلاث الشامخة التي تخترق سماء العاصمة، ليس مجرد نصب من حجر وخرسانة، بل هو نبض الذاكرة الجمعية ومحراب تضحية المليون ونصف المليون، إنه القاسم المشترك الذي يجمع الأمة حول قيمة عليا واحدة هي الحرية، المؤسسة على الإيمان والأخلاق التي جبلت عليها ثورة التحرير.
غير أن ما طفح على السطح مؤخراً في محيط هذا الصرح المقدس، من سلوكيات غريبة ونشاطات مستوردة، لم يكن مجرد تجاوز عابر، بل كان طعنة غائرة في صدر الرمز الوطني، وخرقاً صريحاً لميثاق الأمة المتمثل في دستورها في المادة 11 منه.
إن الدساتير ليست مجرد نصوص جامدة، بل هي روح الدولة وهويتها المتجسدة في وثيقة قانونية، وفي هذا السياق، جاء البند الثالث من المادة 11 في الدستور الجزائري كصمام أمان قيمي، قاطع الدلالة، واضح العبارة:
"تمتنع المؤسّسات عن القيام بما يأتي: ... السّلوك المخالف للخلُق الإسلامي وقيم ثورة نوفمبر."
إن وضع الخلق الإسلامي وقيم ثورة نوفمبر في نص دستوري واحد ليس مصادفة، بل هو إقرار بأن الإسلام هو ركيزة الأخلاق، وأن ثورة نوفمبر لم تكن مجرد كفاح عسكري، بل كانت صحوة أخلاقية وإيمانية ضد الاستعمار الذي حاول طمس الهوية.
إن السلوكيات المشينة التي شهدها محيط المقام مؤخراً، والتي تناقلتها الأسماع والأبصار، لا يمكن تصنيفها إلا تحت خانة السلوك المخالف للخلُق الإسلامي بكل وضوح؛ فهي تمثل انحلالاً، وتقليداً أعمى، وتمرداً على الأعراف الأصيلة. والأخطر، أنها تشكل إهانة مباشرة لقيم ثورة نوفمبر، لأن الشهداء لم يقدموا أرواحهم الطاهرة لتقام على ترابهم الطقوس التي تخالف الشريعة وتضرب الذوق العام عرض الحائط. إن من يستبيح حرمة المقام، يستبيح بـرَمْزيته قيم الجمهورية بأكملها.
إن اختيار مقام الشهيد تحديداً لتلك الممارسات هو فعل يتجاوز الفردية ليصبح تحدياً سافراً للهوية الوطنية الجامعة، فالمقام هو نقطة التماس بين جيل الحرية وجيل ما بعد الاستقلال، وهو المكان الذي يحفظ أمانة الآباء للأبناء.
إن السماح بهذه التجاوزات أو غض الطرف عنها، لا يسقط فقط في فخ التقصير الإداري، بل يقع في مستنقع الخيانة الرمزية والتقصير الدستوري، إن واجب المؤسسات ليس فقط تسيير شؤون البلاد، بل حماية الرموز وصيانة مرجعية الأمة، وعندما يقع الخرق في هذا المستوى، يتحتم على الدولة بجميع أجهزتها أن تعود إلى بوصلتها الدستورية، التي هي اليمين الذي أقسمت عليه.
إننا اليوم، أمام نص دستوري صريح وبَيِّن، وأمام حدث أجمع الرأي العام الوطني على خطورته وضرورة التصدي له. لذلك، فإن المطالبة بفتح تحقيق عاجل وشفاف، وتحديد دقيق للمتسببين، والمقصّرين، والمنظمين، والداعمين لهذا الخرق، هو واجب وطني وقانوني لا يقبل التأجيل أو المساومة.
يجب تفعيل آلية المحاسبة الدستورية، التي تعاقب كل من سمح، أو سهّل، أو قصر في حماية هذا المعلم التاريخي-الروحي يجب أن تكون العقوبة رادعة، ليس انتقاماً، بل انتصاراً لسيادة الدستور ومهابة الرمز، يجب أن يصل صوت القانون عالياً، مؤكداً أن لا حصانة لمن يدنس حرمة الشهداء، وأن قيمنا ليست مجرد شعارات على الجدران، بل هي خط أحمر دستوري يُعاقَب مخترقه.
إن سكوت القانون عن هذا التجاوز سيفتح الباب على مصراعيه أمام المزيد من التحلل، وسيهز الثقة بين المواطن ودولته، ويجعل الدستور حبراً على ورق، فلنجعل من تطبيق المادة 11 في هذه الواقعة رسالة لكل من تسوّل له نفسه العبث بالقيم: الجزائر دولة نوفمبر، والجزائر دولة قانون، وكليهما لا يهادن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق