كم من الأصوات ترتفعُ بالانتساب، وكم من الرايات تُرفع باسم الأئمة الأعلام! لكنّ الحقيقة الموجعة تكمن في الفجوة الهائلة بين صوت المُدّعي وروح المُنتمى إليه، إنها لَمسافة شاسعة تفصل بين المظاهر التي تُخاتِلُ الأعين والمخابر التي تُمتحَنُ فيها القلوب والمسالك، إنها غربة المبادئ الحقة عن حَمَلَةِ اسمِها، وبراءةٌ صامتةٌ من الأصول من فروعها الضالة.
المذاهب الفقهية: ضياع في فلك مالك
في رحاب الفقه، نجدُ الكثيرين من مدّعي الانتساب إلى الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، ذي المنهج الرصين الذي قام على الاستدلال المحكم، والمراعاة الدقيقة لمصالح الأمة، و كم من هؤلاء يحملُ اسمَ المالكية على لسانه، لكنّ فكره يجافي يُسر مالك، ويبتعد عن روح الاعتدال التي سادت مدرسته؟ إنهم يُنظِّرون ويُفتون بأفكار تُضيِّقُ واسعاً، وتُعسِّرُ مُيَسّراً، وتتخلّى عن عمق النظر وفقه الواقع الذي كان سمةَ الإمام، فمالكٌ، برغم صرامته في الأصول، كان فقيهاً متسامحاً يرى سعةَ الإسلام وشموليتَه، فأفكارُ أغلب المدعين في ناحية، وأصول المذهب المالكية الثابتة في واد آخر، فكيف يلتقيان؟
التصوف الأصيل: تيه عن زهد الحسن البصري
وعندما ننتقل إلى ميدان التصوف، نجدُ كثيرون يتغنون بالانتساب إلى الحسن البصري، سيد التابعين وزاهدِهم، الذي كان تصوفه زهداً حقيقياً، وورعاً خالصاً، وخوفاً من الله يدفع إلى العمل الصالح، وتطهيراً للقلب من علائق الدنيا، لكنّ تصوفَ كثيرٍ من المدعين اليوم أصبح طقوساً منزوعة الروح، وانعزالاً سلبياً عن إصلاح المجتمع، أو ربما استسلاماً للخرافات والبدع التي لم يعرفها البصري ولا أتباعه الأوائل، فالحسن البصري، كان خطيباً بالغ التأثير، يقرعُ القلوب ويُوقظُ الضمائر، لا مُنقطعاً عن الحياة، بل مُصْلحاً فيها، إن أفكار هؤلاء المدعين تَرِثُ القشور وتترك الجواهر، فمن كان الحسن البصري ليَرضى عن انحراف المسار؟
السلفية المزعومة: انفصال عن دعوة محمد بن عبد الوهاب
وفي سياق الدعوة السلفية، هناك من يدّعي الانتساب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي قامت دعوتُه على تجديد التوحيد الخالص، ومحاربة البدع والشركيات، والعودة إلى المنهج النقلي الصارم، لكنّ هذا الانتساب صار لدى كثيرين قناعاً للتعصب، وأداة للتفرقة، ومنهجاً في التشدد غير المنضبط، وإساءة لفهم مرونة الشريعة وسعة الخلاف. فمحمد بن عبد الوهاب كان يدعو إلى وحدة الصف على التوحيد، لا إلى تقطيع الأواصر على فروع المسائل، وأفكار هؤلاء المدعين تُفرِّغُ المنهج من حكمته وهدوئه العلمي، وتُلبسُه ثوب الغلظة والتسرع في الحكم، فتبتعد عن الهدف الأصلي للدعوة التي كانت تسعى للتصحيح لا للتجريح بلا ضابط.
الإخوانية الشاحبة: هجر لمقاصد حسن البنا
ولا يختلف الأمر كثيراً في صفوف من يدعون الانتماء إلى حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، لقد وضع البنا منهجاً جامعاً شاملاً، يقوم على الإصلاح التربوي، والعمل الاجتماعي المنظم، والاستيعاب الواسع لأطياف المجتمع الإسلامي، وهدف إلى بعث الأمة وتحقيق نهضتها الشاملة، لكنّ انتساب الكثيرين اليوم تحوّل إلى أطر تنظيمية جامدة، وأجندات ضيقة تغلب عليها السياسة البحتة، وغابت عنها روح التربية وسعة الأفق التي كان ينادي بها البنا، أين التسامح والاستيعاب الذي دعا إليه؟ أين الأولوية للتربية قبل أي شيء؟ إن أفكار المدعين تذهب بعيداً عن مقاصد البنا في البناء المتدرج والشمولية المتوازنة، فتحولت الدعوة من فكرة إلى هيكل أجوف.
البراءة المُستحَقَّة
إنها لحقيقةٌ مُرّة: إن الأئمة الأربعة الذين ذُكروا، وجميع أئمة الهدى، لَبرآءٌ براءة الذئب من دم ابن يعقوب، من كل فكرة شاذة، أو متطرفة، أو قاصرة، تُرفع باسمهم، و إن الانتساب الحقيقي ليس ترديداً باللسان ولا انتماءً بالهوية، بل هو اتباعٌ للمنهج، واقتفاءٌ للأثر، وتمثلٌ للروح.
الانتساب الحقيقي هو أن تكون: مالكياً في الاعتدال، بصرياً في الزهد والورع، حنبلياً أو وهابياً في التوحيد والصفاء، بنائياً في الشمول والإصلاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق