الأربعاء، 29 أكتوبر 2025

زمن الوليّ التائه: صرخةٌ في وجه المرآة

وصلنا حقًا إلى زمنٍ غريبٍ، زمنٍ تتبدّل فيه الأدوار وتختلط فيه المعاني، زمنٌ تاه فيه وليّ الأمر عن بوصلته، فبات هو ذاته يحتاج إلى من يتولّى أمره! إنه زمن "وليّ الوليّ" بامتياز؛ هذا العنوان الذي ليس مجرد توصيفٍ لحالةٍ عارضة، بل هو تشخيصٌ عميقٌ لعلّة مجتمعية خطيرة تتسرّب كالنار في الهشيم.

​لم يعد المشهد المعتاد في المدرسة هو مشهد المعلم والأب المتكاتفَين على تربية غرسٍ واحد، بل تحوّل إلى ساحة مواجهةٍ غريبة، فعندما تُستدعى المدرسةُ “الوليّ” لمناقشة سلوك ابنه المتدهور أو مستواه المتهاوي، فإذا به يفدُّ متجهّم الوجه، مُحمَّلا بالغيظ، رافعًا صوته كالسيف في وجه الإدارة والمعلمين أو الأساتذة، يوزّع الاتهامات يمينا وشمالا على النظام التعليمي، وعلى المناهج، وعلى كل شيء ما عدا المصدر الحقيقي للمشكلة، ينسى الوليّ تماما أن التربية تبدأ منه هو، من عتبة بابه، من مائدة طعامه، من صمته وكلامه، قبل أن تبدأ من أيّ كتابٍ أو سبورة.

​المرآة المقلوبة: الطفل يقتدي بمن لم يكتمل نضجه

​لقد صرنا أمام مشهدٍ أشبه بالمسرحية الهزلية السوداء: طفلٌ يقتدي بأبٍ لم يكتمل نضجه بعد، لم يرتدِ رداء المسؤولية بالكامل، أبٌ يطالب المدرسة بتعديل سلوك ابنه بينما هو أول من يكسر قواعد الاحترام في حديثه معهم، أبٌ يحتاج إلى من يرشده ويعلّمه معنى القدوة قبل أن يُلقي بها على كاهل صغيره.

​الطفل، يا سادة، هو مرآة بيته الصادقة، لا يتقن التزييف ولا يجيد التجميل، ما يزرعه الوليّ في داخله اليوم من صراخٍ أو عنفٍ أو استخفافٍ بالآخرين، سيحصد نتائجه غدا في المجتمع كله؛ في الشارع، في الجامعة، وفي العمل، سلوك الطفل خارج البيت ليس إلا صدىً للغة التي يتحدث بها بيته، فكيف نطالب بغرسٍ مستقيمٍ إذا كان ساقيه، الوالدان، مائلتين؟

​نداء "وليّ الوليّ": واجبٌ غائب في 

​أحيانًا تشعر أن المدرسة لم تعد تحتاج فقط إلى استدعاء وليّ التلميذ، بل تحتاج إلى أن ترفع صرخةً عالية تطالب بـ "وليّ الوليّ" نفسه!

​من يذكّره بأن الأبوة ليست مجرد لقبٍ أنيقٍ يُكتب في استمارة، بل هي عقدٌ مقدّسٌ من المسؤولية والممارسة اليومية.

​من يعلّمه أن التربية ليست نوبة غضبٍ عابرة، ولا صراخا يمزّق جدران البيت، ولا تهديدا واهيا يُفقد الكلمات معناها، بل هي قدوةٌ صامتة، وصبرٌ جميل، وتواصلٌ هادئٌ يفتح أبواب القلوب المغلقة.

​من يشرح له أن الانضباط الذي يطالب به ابنه يجب أن يبدأ به هو أولًا، كيف يطلب منه احترام المعلم أو الأستاذ والمربي عموما وهو يرفع صوته على من يُعنَى بتعليمه؟ كيف يتحدث عن القِيَم وهو أول من يهينها بفعله؟

​لقد صار بعض الأولياء يطالبون بالاحترام وهم أول من يهينه، يطالبون بالانضباط وهم أول من يكسره، يتحدثون عن التربية وهم لم يربّوا أنفسهم على ضبط النفس والصبر والاعتراف بالخطأ بعد، و هم أنفسهم يحتاجون إلى إعادة توجيه، إلى "وليّ" يُعيد إليهم وعيهم، يُذكّرهم بواجبهم الأصيل تجاه هذا الكائن الصغير الذي ائتمنهم الله عليه.

​في الختام، إننا نعيش في زمنٍ تتطلب فيه الأبوة والأمومة وعيا مضاعفا، لا مجرد غريزة، إنها دعوةٌ إلى كل وليّ أمرٍ بأن ينظر في مرآة ابنه جيدا، فليست المرآة إلا صنيعه، فلتكن أنت الوليّ الأوّل لنفسك، قبل أن تطالب بأن تكون وليًّا لابنك.

​هذا هو التحدي الحقيقي للمرحلة: أن نُنشئ وليًا ناضجا، ليكون قادرا على تنشئة جيلٍ ناضج، هل أنت مستعدٌ لتحمّل مسؤولية أن تكون "وليّ الوليّ" في حياتك؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق