السبت، 18 أكتوبر 2025

لطالما سُلّط الضوء على دور الأم كـالمعلم الأول وكهمزة وصل رئيسية بين صرح البيت وحرم المدرسة، وهو دورٌ عظيم لا يُنكَر ولكن، في خضمّ هذه الشراكة التربوية المقدسة، يبرز دورٌ آخر لا يقل أهمية وعمقاً وتأثيراً؛ إنه دور الأب، الأب ليس مجرد مُعيل أو مراقب من بعيد، بل هو المِرسَاة التي تمنح الاستقرار والبوصلة التي تحدد الاتجاه، وهو شريك أساسي تكتمل به دائرة التربية والتعليم المثالية. إن غيابه الفعلي أو المعنوي عن هذا المحور يُحدث شرخاً تتسع فجواته ليضيع فيها مستقبل النشء.

​حضور الأب: من التمويل إلى التمكين

​لا يقتصر دور الأب في هذه الشراكة على الجانب المادي وتوفير المستلزمات الدراسية، رغم أهميتها، فالتعليم ليس مجرد كُتب وحقائب أوأقساط تُدفع، بل هو استثمار في الروح والفكر، يتطلب مساهمة وجدانية وفكرية عميقة من الأب.

​1. الأب كداعم نفسي ومعنوي:

​الأب هو مصدر الأمان والطمأنينة، و حضوره الفعال في حياة الأبناء الأكاديمية يغرس فيهم الشعور بالقيمة والاعتراف، و عندما يخصص وقتاً للجلوس مع ابنه، مستفسراً عن يومه الدراسي، أو مشاركاً إياه في حل مسألة صعبة، فإنه لا يعلمه الرياضيات أو التاريخ فحسب، بل يرسخ فيه رسالة أعظم: "أنت مهم، ومستقبلك هو أولويتي. هذه اللفتة الأبوية تحوّل الواجب المدرسي من عبء إلى فرصة للتقارب والمشاركة، إنها تُشعل في قلب الطفل شعلة التحفيز الداخلي التي لا تخبو، جاعلةً إياه يرى في المدرسة جسراً نحو أحلام يباركها الأب ويساندها.

​2. الأب كمُشَرِّع للقيم والرؤية:

​المدرسة تمنح العلم والمهارات، أما البيت، بقيادة الأب، فيمنح القِيَم والرؤية، الأب هو من يحدد بوصلة الحياة للطفل و من خلال تصرفاته وقناعاته، يعلم الأبناء قيمة الاجتهاد، الانضباط، احترام المعلم، والمسؤولية تجاه العلم، والأب الذي يُظهر احترامه للمعرفة وقدره للمعلم يُرسل رسالة قوية لأبنائه بوجوب تقدير هذه المؤسسة التعليمية، و هو الذي يشدّد على أن النجاح الأكاديمي ليس مجرد درجات، بل صناعة لشخصية واعية وقادرة على تحمل مسؤولية مستقبلها ووطنها.

​3. الأب كشريك فعال للمدرسة:

​المشاركة الأبوية ليست ترفاً، بل هي ضرورة تربوية، يجب على الأب أن يتجاوز دور "المستمع" في اجتماعات أولياء الأمور ليصبح "المشارك الفعال"، و حضوره في مجالس الآباء، وتفاعله مع المربين، وطرحه للأسئلة البنّاءة، يُظهر التزاماً جاداً، هذا التواصل المباشر يسمح للأب بفهم التحديات التي يواجهها ابنه في البيئة المدرسية، وتوفير التغذية الراجعة الثمينة لإدارة المدرسة حول ما يحدث في بيئة المنزل، إنه جسر من الثقة يُبنى بين القطبين، يضمن تضافر الجهود وتوحيد الرسائل التربوية، فلا تناقض بين ما يُلقَّن في الصف وما يُعاش في المنزل.

​غياب الأب: فراغ يصعب ملؤه

​عندما يغيب الأب عن هذا الدور، حتى لو كان حاضراً جسدياً، فإن الفراغ الذي يتركه عميق، هذا الغياب يُرسل رسالة سلبية للطفل بأن "التعليم مهمة ثانوية تُركت للآخرين"، هذا التخلي يُثقل كاهل الأم، ويُشتت تركيز الطفل، ويجعله يفتقر إلى النموذج الذكوري الذي يعلمه المثابرة والمواجهة الجادة لتحديات الحياة والعمل، وغياب الأب قد يؤدي إلى تراخي الانضباط وتدهور الدافعية، فتتحول المدرسة من واحة للعلم إلى مصدر للضغط والقلق.

​نداء إلى الأبوة الواعية

​إلى كل أب، تذكر أن الأبوة ليست منصباً، بل رسالة، لا تجعل دورك ينحصر في توفير القوت؛ فالأبناء بحاجة إلى قوت الروح والعقل أيضاً، فكن القارئ الذي يشجع على القراءة، وكن المُصغي الذي يفهم المخاوف، وكن الشريك الذي يمد يد العون للمعلم.

​إن بناء جيل الغد لا يتم عبر جهود فردية منعزلة، بل عبر شراكة مُحكَمة، يكون فيها الأب ركناً ثابتاً يشد أزر البيت والمدرسة معاً، فلنرفع من قيمة هذا الدور، ولنعِ عِظم المسؤولية، ليكون الأب حقاً القلب النابض لهذه الشراكة، الذي يضخ فيها الحياة والقوة والالتزام، ليثمر جيلاً متوازناً، ناجحاً، وقادراً على صياغة مستقبل مشرق.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق