تتوقفُ الكلماتُ خجلاً أمامَ عظمةِ الرَّحيلِ، وتَتَلَعْثَمُ الحُروفُ حينَ تُحاولُ أَنْ تَرسمَ صورةَ رجلٍ كانَ أَكْبَرَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الوَصْفِ، لتَشْهَدُ أولف الكبير على حقيقةٍ مُؤْلِمَةٍ، لقد غَابَ عَمُودُهَا الرَّاسِخُ، وابنُها البَارُّ الذي كانَ يُمَثِّلُ الْخَيْرَ المُتَجَسِّدَ في أَبْهَى صُوَرِهِ، لقد رحلَ قاسمي دحمان، ذلكَ الاسمُ الذي لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ عَلَامَةٍ لِشَخْصٍ، بَلْ كَانَ بَوْصَلَةً أَخْلاقِيَّةً بالمُجْتَمَعُ في أولف الكبير وماخولها، وعَلَمًا خَفَّاقًا لِأَصَالَةِ النَّفْسِ الفاضلة الذكية، وماجَعَلَ هذا الرَّجُلَ يَخْتَرِقُ نُفُوسَ النَّاسِ بِهَذَا العُمْقِ؟ إنَّهُ التَّجْرِيدُ الأَخْلَاقِيُّ مِنْ شَوَائِبِ الدُّنْيَا، حيث كانتْ حَيَاتُهُ بِأَكْمَلِهَا مَشْروعًا لِإِثْبَاتِ أَنَّ قِيْمَةَ الإِنْسَانِ تَتَجَاوَزُ أَلْوَانَهُ ووَضْعَهُ وَمَالَهُ، لقد كانَ قاسمي دحمان يُطَبِّقُ مَفْهُومَ المُسَاوَاةِ كَـعَقِيدَةٍ لا تَقْبَلُ التَّفَاوُتَ، و كانَ مِيزَانُهُ الإِلَهِيُّ يَرَى النَّاسَ سَوَاسِيَةً كَأَسْنَانِ المُشْطِ.
لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ هَذَا وذَاكَ، فَالصَّغِيرُ لَهُ نَصِيبُهُ مِنْ التَّوْقِيرِ كَالْكَبِيرِ، والضَّعِيفُ لَهُ نَصِيبُهُ مِنْ النُّصْرَةِ كَالْقَوِيِّ، والفَقِيرُ لَهُ مَكَانَةُ الغَنِيِّ فِي قَلْبِهِ، كَانَتْ هذهِ المَعَادَلَةُ لَهُ سُلُوكًا مُؤَصَّلاً، لَيْسَ تَكَلُّفًا، بل أَدْرَكَ بِفِطْرَتِهِ النَّقِيَّةِ أَنَّ جَوْهَرَ الرِّسَالَةِ الأَبَدِيَّةِ يَقُومُ عَلَى كَرَامَةِ الإِنْسَانِ دُونَ شَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ، ولهذا كانَ يُوقِّرُ الكَبِيرَ بِاعْتِبَارِهِ مَوْرِثًا لِلْحِكْمَةِ ويَرْحَمُ الصَّغِيرَ بِاعْتِبَارِهِ رَجلا لِلْغَدِ، و
إِنَّ سِرَّ هذهِ المَعَامَلَةِ السَّامِيَةِ التي كان يعامل بها الناس يَكْمُنُ فِي المَنْبَعِ النُّورَانِيِّ الذي اسْتَقَى مِنْهُ، أذ أن قَاسِمِي دَحْمَان لَمْ يَبْنِ أَخْلَاقَهُ عَلَى عُرْفٍ بَشَرِيٍّ يَتَغَيَّرُ، بَلْ عَلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ كَانَ مِنارة لِهَذِهِ القِيَمِ الرُّوحِيَّةِ، يَتَجَوَّلُ بِهَا فِي أَزِقَّةِ أُولْف الكبير كَدَاعِيَةٍ صَامِتٍ.
فَيَا لَهُ مِنْ إِرْثٍ، إِرْثٌ لَا يُقَدَّرُ بِالْمَالِ، بَلْ بِمَدَى نَفَاذِ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ ووَقْعِ الفِعْلِ الحَسَنِ، كانَ حَيَاءً مُتَوَاضِعًا، وَصَدْقًا بَلِيغًا، وَتَضْحِيَةً فِي صَمْتٍ.
إِنَّ الأَوْطَانَ لَا تُبْنَى بِالْحِجَارَةِ فَقَطْ، بَلْ بِالرِّجَالِ الذينَ يَحْمِلُونَ ذَاكِرَةَ الأُمَّةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، لقد ولد قاسمي دحمان، لِيَعِيشَ عُمْرًا كَامِلاً، عَاصَرَ الأَجْدَادَ والآبَاءَ والأَبْنَاءَ، هذهِ النُّدرةُ فِي تَرَابُطِ الأَجْيَالِ هي سِرُّ مَحَبَّتِهِ العَامَّةِ، فهو يعْرِفُهُ الجَدُّ الذي حَكَى عَنْهُ، والأَبُ الذي صَافَحَهُ، والابْنُ الذي تَعَلَّمَ مِنْهُ، بَلْ وَيَعْرِفُهُ الْخَالُ والْخَالَةُ والْعَمُّ والْعَمَّةُ، كانَ نَقْطَةَ وَصْلٍ مُقَدَّسَةٍ تَلْتَقِي عِنْدَهَا أَطْرَافُ الْعَائِلَةِ والمُجْتَمَعِ، لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ مُجَامِلٍ، بَلْ كانَ مُشَارِكًا حَقِيقِيًا فِي نَبْضِ الحَيَاةِ بِأَكْمَلِهِ، فكانَ حَاضِرا بِقَلْبِهِ لا بِجَسَدِهِ فِي كُلِّ مَوَاسِمِ الْفَرَحِ، يُضَاعِفُ السَّعَادَةَ، وفي كُلِّ مَشَاهِدِ الْحُزْنِ، يُوَاسِي ويَجْبُرُ الْخَاطِرَ.
لَقَدْ كَانَ يُثْنِي عَلَى النَّاسِ فَيَزْرَعُ فِيهِمْ حُبَّ الْخَيْرِ، وهُمْ يُثْنُونَ عَلَيْهِ رَدًّا لِجَمِيلِ الِاحْتِرَامِ الذي بَذَلَهُ.
في سجل الرِّجَالِ العُظَمَاءِ، الْمَوْتُ لَيْسَ غِيَابًا قَاطِعا، بَلْ هُوَ تَحَوُّلٌ مِنْ حَيَاةِ الجَسَدِ إِلَى خُلُودِ الذِّكْرَى.
نَعَمْ، غَيَّبَهُ المَوْتُ عن عيوننا التي أَحَبَّتْهُ، ولكِنَّ ذِكْرَاهُ لَنْ تُغَيَّبَ. كَيْفَ لِـنُورٍ سَرَى فِي النُّفُوسِ أَنْ يَنْطَفِئَ؟
سَتَبْقَى ذِكْرَاهُ فِي كُلِّ فَرْحٍ يَحِلُّ، حَيْثُ يُصْبِحُ مَقْعَدُهُ الْخَالِي شَاهِدا صَامِتا عَلَى مَا كَانَ يفعله ويُضْفِيهِ مِنْ بَهْجَةٍ ويستر من عيب، وَسَتَبْقَى حَاضِرَةً فِي كُلِّ حُزْنٍ، حَيْثُ نَفْتَقِدُ لَمْسَتَهُ الحَانِيَةَ وَكَلِمَتَهُ الصَّادِقَةَ التي تُلَمْلِمُ الجِرَاحَ، إِنَّ تَوَاضُعَهُ المُتَرَسِّخَ وَعَدْلَهُ المُطْلَقَ هُمَا النَّهْجُ الذي سَيَبْقَى مَنْحُوتًا فِي وِجْدَانِ أَهْلِ أولف الكبير وما خولها لِأَبَدِ الآبِدِين.
وَلَيْسَ لَنَا فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ سِوَى أَنْ نَرْفَعَ التَّضَرُّعَ إِلَى مَوْلَانَا، رَاجِينَ ومُتَوَسِّلِينَ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَاجْعَلْ قَبْرَهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. اللَّهُمَّ أَسْكِنْهُ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصالحين، واجْعَلْهُ فِي مَكَانَةِ الرِّجَالِ الذينَ جَعَلُوا حَيَاتَهُمْ نَمُوذَجا سَامِيا لِلْإِحْسَانِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ.
إِنَّا لِلَّهِ وإن إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق