من "تيليملي" إلى "تمقطن"... مسيرةُ وِدادٍ وعطاء، كانت بدايتهُ في حيٍّ ينبضُ بالحياة، "تيليملي" في الجزائر العاصمة، حيث نشأ وترعرع حاملاً في جيناته روح العاصمة الصاخبة، لكنَّ القدرَ خطَّ له مساراً آخر، مساراً ارتبطَ بالجذور والوفاء، ففي بداية الثمانينات، آثر "باية الزهير" الرحيل إلى حيثُ الأصالة، إلى قصر ڤوڤو ببلدية تمقطن، مُستجيباً لنداء الأرض التي احتضنتْ جدَّه "مولاي السعيد". وكأنما كان هذا الانتقال ليس مجرد تغييرٍ لمكان الإقامة، بل كان عودةً إلى المَهْد، وإتماماً لدائرة الحياة التي تبدأ من حيثُ تبدأ الأصول.
في "تمقطن"، لم يكن الفقيد عابراً، بل كان وتداً راسخاً، تجلّت فيه صفةُ "الرجل الطيب المسامح" كأبهى ما تكون، لقد اختار لنفسه في وقت من حياته مهمةً بسيطةً في ظاهرها، عظيمةً في مضمونها: النقل بين بلدية تمقطن وبلدية أولف، تلك المهمة، التي تبدو للكثيرين عملاً يومياً رتيباً، كانت في يديه رسالةً وخدمةً، كان هو الشريان الذي يربطُ القلوب، و الجسر الذي يصلُ المحتاج بمراده، والحامل الأمين للركاب وبضائعهم. كم من قصةٍ سمعها، وكم من همٍّ خففه بكلمةٍ طيبة، وكم من طريقٍ سهّله في دروب الصحراء القاسية، لقد خدمَ المجتمع من خلال تلك المهنة بصدق، وترك بصمته في ذاكرة الطرقات والوجوه.
وداعُ الشمس في "أخنوس"... رحيلٌ بلا ضجيج
وها هو اليوم، الأحد، السادس عشر من نوفمبر 2025، عند الساعة الخامسة مساءً، تُختتم فصولُ هذه المسيرة، حيث شُيِّعت جنازة الفقيد الطاهر في مقبرة "أخنوس"، في مشهدٍ مهيبٍ يليق بمسيرته الهادئة، فلم يكن وداعاً صاخباً، بل كان وداعاً يحملُ في طياته خشوعَ الإيمان وهدوءَ الرضا، تحت سماء "بلدية تمقطن"، وبجوار من سبقه، سُجِّيَ الجسدُ الطاهر، ليعود إلى ترابها الذي أحبَّه واحتضنه.
"باية الزهير"، المعروف بباية السعيد أو باية مولاي السعيد الذي عاش مسامحاً طيب القلب، ترك خلفه إرثاً لا يُقاس بالمال، بل يُوزنُ بميزان العِشرة الطيبة، والكلمة الحسنة، والعمل الصالح الذي سار به بين الناس.
أيُّها الراحلُ الكريم... إنَّ الذاكرة لَتَعجزُ عن نسيانِ أثرك، وإنَّ القلوبَ لتشهدُ بصدقِ خُلُقِك، فنم قريرَ العين في جوار ربٍّ غفورٍ رحيم، فقد أتيتَهُ بقلبٍ سليم، وبمسيرةٍ بيضاء.
في هذا المقام الأخير، لا نملك إلا أن نرفع أكفَّ الضراعة، مستذكرين قوله تعالى: {( إنا لله وإنا إليه راجعون )}.
فادعوا له بالرحمة والمغفرة، والعتق من النار، وأن يبدله الله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأن يُجزيه عن إحسانه إحساناً، وعن إساءته عفواً وغفراناً.
اللهم آمين، للعلم باية الزهير أو باية السعيد ولد سي محمد، هو الأخ الأكبر لباية ناصر والذي هو كذلك زوال مهنة النقل في نفس الخط من بلدية تمقطن إلى بلدية أولف.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق