في قصر أولف الكبير ببلدية تمقطن، دائرة أولف، بولاية أدرار الشامخة، تنبع قصص العظماء من رحم التضحية والعمل الصامت، ومن بين تلك القصص الخالدة، تبرز سيرة المربي الفاضل والقامة التربوية الشامخة، الأستاذ بلوافي محمد بن المهدي، المعروف بـ "حمو المهدي". إنها سيرة لم تُرسم على ألواح الشهرة الزائفة، بل خُطَّت بمداد الإخلاص والتفاني على صفحات القلوب وعقول الأجيال.
هيبة الوقوف خلف السبورة
لقد بدأ الأستاذ حمو المهدي مسيرته في محراب التربية والتعليم كأستاذ لمادة الرياضيات، تلك المادة التي تحتاج إلى عقل منظم وروح صبورة إذلم يكن "حمو المهدي" مجرد أستاذ يلقن الأرقام والمعادلات الجبرية؛ بل كان مهندسا للعقول، وبانيا للمنطق، و كان يرى في القسم فضاءً مقدسا للرسالة، حيث يؤدي عمله بإخلاص يتجاوز حدود الواجب الوظيفي ليلامس مرتبة العبادة والإتقان، ولهذا أصبح اسمه يُضرب به المثل في الوفاء لمهنة التعليم، فكان تلاميذه لا يتذكرون منه قسوة المنهج بقدر ما يتذكرون منه دفء الإرشاد وقوة المنهجية.
تصاعد في مراتب المسؤولية
لم يكن الإخلاص في عمله ليظل حبيس جدران الفصل؛ فكان التدرج في المناصب اعترافا مستحقا بكفاءته ونبل مقصده. من أستاذ ملهم، ارتقى إلى منصب ناظر، حيث اتسعت دائرة تأثيره لتشمل الإشراف والتوجيه، محافظا على الجودة التي طالما عُرفت في عمله، ثم بلغت مسيرته ذروتها بتعيينه مديرا لثانوية.
في هذا المنصب القيادي، لم يحد عن مبادئه الراسخة، لقد قاد المؤسسة التربوية بنفس روح التفاني والإخلاص التي عُرف بها في القسم، ولم يكن المدير المتسلط، بل كان القائد الأب الذي يرى في كل طالب مشروع مستقبل، وفي كل أستاذ شريكا في بناء هذا المستقبل. لقد كانت إدارته مثالا يُحتذى به في الانضباط، والنزاهة، والرؤية التربوية الثاقبة، حتى ساعة إحالته على التقاعد.
أخلاق فاضلة وكنز لا ينضب
إن قيمة "حمو المهدي" لا تقاس فقط بعدد السنوات التي قضاها في الخدمة، ولا بحجم المناصب التي تقلدها، بل بجوهر الرجل والمربي الفاضل الذي سكنه، هو رجل ذو أخلاق حسنة تزين سيرته وتلمع في ذاكرة كل من عرفه، تلك الأخلاق التي صنعت منه قدوة، وجعلت محبته محبة صادقة، وشهادته شهادة حق لا يمكن لأحد أن ينكر بصمته النبيلة، إلا جاحد عماه الإنكار عن رؤية النور الصافي.
بلوافي محمد بن المهدي لم يتقاعد من الحياة؛ بل انتقل من مرحلة العطاء الرسمي إلى مرحلة العطاء بالقدوة والتاريخ المشرّف، لقد ترك وراءه كنزا لا يفنى: أجيالا متعلمة، وقيما مغروسة، وذكرا حسنا يتردد صداه في أروقة تمقطن وأولف.
فتحية إجلال وتقدير لـ "حمو المهدي"، رمز الإخلاص في زمن قلّ فيه الأوفياء.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق