الأربعاء، 19 نوفمبر 2025

الأستاذ دباغ عبد القادر منارة الأجيال

في سِجلِّ الحياة، تتلألأ أسماءٌ كنجومٍ ثابتةٍ، هي أسماء من نذروا أرواحهم لجعل هذه الأرض أكثر ضياءً وأهلها أكثر وعيا، ومن بين هؤلاء الكرام، يبرز اسم المربي الفاضل والأستاذ المتقاعد: دباغ عبد القادر، قيمةً لا تُقدَّر بثمن، وعنوانا للتفاني الذي ارتسم على جبين التربية والتعليم لعقود خلت.

​المرحلة الأولى: حيث تُصاغ البذور وتُروى

​لقد كانت رحلة الأستاذ دباغ عبدالقادر رحلة صعود في مدارج الفضل والعطاء، بدأت في التعليم الابتدائي؛ تلك المرحلة التأسيسية التي تُغرس فيها البذرة الأولى للانتماء والمعرفة، حيث لم يكن فيها مجرد "معلم" يلقن الحروف والأرقام، بل كان "المربي" بكل ما تحمله الكلمة من جلال وسمو؛ كان قلبه سِقاءً يروي عقول الصغار، ويده محراثا يقلب تربة نفوسهم الطرية، يعدُّهم للحياة بروح لا تعرف الكلل، في تلك الفصول المضيئة، تجسدت فيه نِعمُ المربي، فكان أبا حانيا قبل أن يكون مرشدا، وقدوةً صامتةً تُعلِّم بالخُلُق قبل الكلمة، أدرك بحسه العميق أن بناء الإنسان يبدأ من هذه اللحظات الأولى، فكانت أيامه هناك فصولا من الإخلاص المطلق.

المرحلة الثانية: الارتقاء نحو صرح الكلمة والروح

​ثم شهدت مسيرته التربوية ارتقاءً مستحقا، إذ انتقل من هالة التعليم الابتدائي إلى سماء التعليم المتوسط؛ ليُصبح أستاذا يغوص بطلابه في عُمق اللغة وعظمة الروح، عبر مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية، وما أجمل هذا الجمع حين يقرن بين لغة الضاد التي هي وعاء الحضارة، وبين التربية الإسلامية التي هي منبع الأخلاق ومشكاة النور.

​في هذه المرحلة، تجلّى التفاني في أبهى صوره، فلم يكن الإخلاص لديه مجرد أداء وظيفي، بل كان نذرا مقدّسا من أجل أداء الواجب التربوي والتعليمي.

​لقد كان نعم الأستاذ، يُدرك أن الكلمة أمانة، والمنهج رسالة،

ف​شَهِدت له قاعات الدرس بأنه الفارس المتفاني في محراب العلم، لم يدخُل فصلا إلا ومعه زادٌ من الوعي والشغف، يبتغي أن يُضيء عقل الطالب وأن يُهذّب روحه معا، كانت حصصه رحلات معرفية تُحلّق بالناشئة نحو فضاءات التفكير السليم، حيثُ العربيةُ ليست مجرد قواعد نحوية، بل جسراً للفهم العميق والبيان الرصين، وحيثُ التربية الإسلامية ليست فروضا جوفاء، بل منهاجا حياة يربط القلب بخالقه ويزرع الرحمة في المعاملات.

​الإرث الخالد: بصمةٌ لا تُمحى

وقد ألقى الأستاذ دباغ عصا الترحال، واعتزل صخب القاعات، ليترجّل عن صهوة التعليم وهو شامخ الرأس، فإن عطاءه لم يتقاعد، فالمُربّي الحقيقي لا يتقاعد؛ لأن إرثه ليس في ملفات أرشيفية، بل هو منقوش في ذاكرة أجيال، ومزروع في نجاحاتهم.

​كم من مهندسٍ وطبيب، وكاتبٍ ومُعلم، يتذكر اليوم لفتةً منه أو كلمة تشجيع، أو تصحيحا جعل مسار حياته مستقيما، هذا هو الرصيد الحقيقي، وهذا هو الكنز الذي لا يفنى، إن قصته هي قصة الشرف الذي يرتديه المُعلِّم المُخلص، والهمّة التي لا ترضى إلا بالجودة والإتقان.

​تحية إجلال وتقدير لهذا الرمز التربوي الذي كان ولا يزال قيمة في التفاني والعطاء، فلتسترح يا أيها الجندي المجهول في صفوف البناء، فقد زرعت فأثمرت، وعلّمت فأبدعت، وتركت خلفك منارة أجيال تضيء الدرب لكل من سار على خطاك. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق