الجمعة، 21 نوفمبر 2025

فلسطين والجزائر نظرة استراتيجية تتجاوز الظاهر

إن الحديث عن تضارب في الموقف الجزائري تجاه القضية الفلسطينية، خاصة ما تعلق بالتكهنات حول خطة ترامب  الأخيرة للسلام، هو حديث يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية العميقة التي طالما حكمت سياسة الجزائر الخارجية، و إن من يطلق أحكاما سريعة ومجردة عن خيانة أو تخلي الجزائر عن القضية الفلسطينية، يقرأ السطور ولا يدرك ما بينها، ويحاكم الظاهر دون فهم المآلات، ف​من الضروري أن نؤكد أن العلاقة بين الجزائر وفلسطين ليست مجرد موقف سياسي عابر، بل هي عقيدة ثورية راسخة ومبدأ تاريخي لا يقبل المساومة،  و الجزائر التي حققت إستقلالها من رحم ثورة تحريرية دامية، تعرف جيدا معنى الاحتلال وحرية الشعوب، هذا المبدأ هو بوصلتها الثابتة، لكن السياسة الخارجية، خاصة في الملفات المعقدة كالقضية الفلسطينية، ليست دائما طريقا مستقيما من الشعارات الصارخة، بل إنها فن الممكن، وحساب للمكاسب والخسائر، ورسم لإستراتيجية طويلة الأمد، وقد تتطلب الضرورة أحيانا اتخاذ خطوات تبدو في ظاهرها غير مرضية أو ملتبسة، لكنها في عمقها قد تكون مناورة تكتيكية تهدف إلى منع وقوع ما هو أسوأ، أو إلى كسب الوقت لترتيب الأوراق، أو حتى إفشال خطة كبرى من الداخل، وغالبا ما تكون البنود السرية أو التفاصيل غير المعلنة في مثل هذه الخطط هي الحبل الذي يمكن من خلاله تضييق الخناق على الخصم أو كشف نواياه الحقيقية أمام المجتمع الدولي، ثم ​إن هذا المنهج في التعامل مع الضرورات السياسية يجد له جذورا عميقة في التاريخ الإسلامي، وأبرز مثال هو صلح الحديبية، لأن صلح الحديبية، في وقته بدا هزيمة أو إجحافا للمسلمين في نظر البعض في ذلك الوقت؛ حيث تضمن شروطا قاسية ومذلة في ظاهرها، مثل إعادة من يأتي من قريش مسلما، وإزالة لقب رسول الله من نص المعاهدة، لقد ثارت العاطفة الإسلامية لذلك، لكن الرؤية النبوية الحكيمة كانت أبعد وأعمق، وهنا تكمن العبرة، وقد يكون الإمضاء على وثيقة أو خطة، مهما كانت شوائبها الظاهرة، هو بمثابة هدنة استراتيجية أو خطة مستقبلية، و قد يكون القبول الظاهري هو الثمن المدفوع للحصول على موقع متقدم يمكن من خلاله، البقاء داخل الدائرة المغلقة للقرار لمنع أي قرارات كارثية أخرى، واستخدام النفوذ الدبلوماسي لتغيير بعض المسارات مستقبلا، و ترك الخطة تسير في بدايتها حتى تنكشف عيوبها ومآربها أمام الرأي العام العالمي والفلسطيني نفسه، وإن الجزائر بميراثها الثوري وموقعها الإقليمي، لا يمكنها أن تضحي بمسار تاريخي طويل من التضحية والدعم للقضية الفلسطينية، و إذا كان هناك أي تحرك يُنظر إليه على أنه تراجع تكتيكي، فهو بلا شك يندرج تحت مظلة نظرة مستقبلية، لصالح القضية الفلسطينية في حد ذاتها، وإن المصلحة العليا للقضية الفلسطينية اليوم تتطلب، وحدة الصف الفلسطيني أولا، وتجنب العزلة التامة في مواجهة التحالفات الجديدة، والحفاظ على نقاط القوة القليلة المتبقية، خاصة الدعم الشعبي والدبلوماسي غير المشروط، ونقول في الأخير إن الحكم على الدول بمقدار صراخها لا بمدى فاعلية تحركها هو حكم قاصر، لذلك يجب علينا أن نمنح الاستراتيجية الثورية الجزائرية مساحة من الثقة، فالتاريخ يعلمنا أن أعظم الانتصارات تولد من رحم المناورات الصعبة، حيث يكون الصمت أحيانا أقوى سلاح، والقبول الظاهري أذكى طريق لتحقيق النصر الذي تنتظره فلسطين، و​فلسطين ليست مجرد قضية عابرة، بل هي قضية الجزائر الأبدية. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق