من رحم مدينة أولف الهادئة بولاية أدرار، ومن أحضان عائلة عُرِفت بالعلم والأخلاق، بزغ نجم البروفيسور عبد المجيد قدي، وحين كان شابا عشريني كان يحمل في قلبه طموحا لا نحده سوى السماء، ويحلم بأن يخط اسما لنفسه في سجل الخالدين بعالم المعرفة، ولم تكن البدايات سهلة، ففشل في اجتياز امتحان البكالوريا في محاولته الأولى، لكن القدر كان يدخر له موعدا مع النجاح ليصبح من أبرز أساتذة الاقتصاد والمالية في الجزائر والعالم العربي.
وُلد البروفيسور عبد المجيد قدي في مطلع الستينيات في زاوية حينون ببلدية أولف ولاية أدرار، ونشأ على منابع العلم الأصيلة، فدرس القرآن الكريم على يد عمه أحمد، وتعلّم الفقه على يد العلامة محمد باي بلعالم، والنحو على يد التابت عبد الرحمن، تنقّل بين مدن الجزائر طلبا للعلم، من أولف في المرحلة الابتدائية، إلى عين صالح في المتوسطة، ثم غرداية في الثانوية، وأخيرا أدرار، و على الرغم من شغفه بالرياضيات وتفوقه فيها خلال دراسته الثانوية بغرداية، إلا أن البكالوريا ظلت عقبة ومحطة صعبة، تنافس مع الكثير من المتميزين في تلك الفترة، لم ييأس الشاب الطموح، بل كان التحدي وقودا لعزيمته، فبعد إصرار من والده على مواصلة الدراسة، التحق بأدرار ليُعيد البكالوريا في التخصص العلمي، ونجح بتفوق ليلتحق بعدها بجامعة العاصمة لدراسة الرياضيات، إلا أن المرض حال دون إكماله العام الدراسي، ليعيد القدر توجيه مساره نحو الاقتصاد، حيث نصحه أحد معارفه بأن هذا التخصص يجمع بين عمق الرياضيات وسعة الآداب والفلسفة التي أتقنها البروفيسور عبدالمجي، فقد سُحِر البروفيسور قدي بعالم الاقتصاد، فغاص في أعماقه بجد واجتهاد، وكان من الأوائل في دفعته، و بعد تخرجه بحث عن عمل دون جدوى، حتى جاءت فرصة مسابقة الماجستير في العاصمة، وشاء الله أن يكون الناجح الأول كتابة وشفويا، و ناقش رسالته بتفوق، وبدأ التدريس وهو لا يزال يعد مذكرة الماجستير، لم يتوقف طموحه عند هذا الحد، فسجل في الدكتوراه، ووفقه الله لمناقشتها مباشرة بعد تسجيله الرابع، ليحصل على تقدير "مشرف جدا مع تهنئة اللجنة"، ويشهد له الجميع بتميز عمله. تدرج بعدها في الرتب العلمية، ليصبح أول أستاذ محاضر وأستاذ تعليم عالي على المستوى الوطني في تخصصه، هو أن يحمل أعلى رتبة وهي أستاذ التعليم العالي مميز، كان البروفيسور قدي عند بلدية عمله أصغر أستاذ محاضر في العلوم الاقتصادية على المستوى الوطني، وحصل على جائزة أصغر باحث من جامعة الجزائر، و انتسب إلى العديد من اللجان الوزارية، واستُضيف في كبرى المحافل العلمية والإعلامية داخليا وخارجيا ولا زال يستضاف، و أشرف على العديد من رسائل الدكتوراه في مختلف الجامعات ولا سوال كذلك، وأثرى المكتبة العربية بأكثر من ثمانية عشر كتابا، بالإضافة إلى عشرات المقالات في المجلات العلمية المحكّمة، تاركا بصماته العلمية كباحث ومُقوّم ومُوجّه، كما تمت تزكيته كعضو في العديد من اللجان الوطنية والدولية، وآخرها تعيينه ضمن فئة الخبراء كعضو في مجلس السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، كانت الباكالورسا بالنسبة للبروفيسور قدي مفتاح، وجواز سفر نحو فضاء أوسع من الخيارات وتحقيق الطموحات، فهي محطة من محطات الحياة التي لا تتوقف الحياة عليها، فللمرء مسالك عدة يمكن عبرها تحقيق ذاته، لأن المهم هو أن يتمتع الإنسان بالقدرة على الإبداع والتميز.
يعتبر البروفيسور عبد المجيد قدي أبا روحيا للعديد من الباحثين في علم الاقتصاد، وأخا ومرشدا ومُوجّها ومُشرفا، و هو باحث متعدد المواهب، طيب المعشر، وفيّ في علاقاته، وكريم ابن كرام، وسنوات 1982، 1987، 1991، 1995 ليست مجرد أرقام عادية في حياة هذا العالم والمربي الفذ، بل هي سنوات إنجاز ومحطات انطلاق نحو فضاء التغيير والبحث والإبداع والتميز، هي سنوات البكالوريا، والليسانس، والماجستير، والدكتوراه، محطات محفورة في تاريخ ووجدان البروفيسور وكل من اقترب منه وعاشره. الأستاذ المميز في التعليم العالي قديم عبد المجيد لم يكتفي بالجانب اقتصادي فهو يكتب في التاريخ والتراث ومحالات أخرى، ويشتغل بجد على الكتب المتخصصة التي تهم عوالم الاقتصاد والمال والتنمية والقطاع الضريبي، و رحلة البروفيسور قدي عبد المجيد مثالا يُحتذى به في الإصرار على تحقيق الطموحات، وتجاوز العقبات، وترك البصمات الخالدة في مسيرة العلم والمعرفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق