في ركن قصي من الصحراء الجزائرية، حيث تتعانق رمال أدرار الذهبية مع نخيل واحاتها، وُلد قنديل أنار دهاليز العلم والتربية والدين؛ إنه الشيخ العالم العلامة محمد باي بلعالم، لم يكن مجرد رجل دين عابر، بل كان سارية مجد، وركناً أصيلاً من أركان الإصلاح الاجتماعي، أفنى سنوات عمره التسع والسبعين في خدمة أم القضايا: تعليم كتاب الله وسنة رسوله، والعمل على تنقية المجتمع من غوائل الخرافات والبدع.
نشأة تحت ظلال العلم
شهدت قرية ساهل بأقبلي عام 1348هـ الموافق 1930م ميلاد هذا القطب، الذي ارتشف باكورة علمه من معين مسقط رأسه على يد والده، الشيخ محمد عبد القادر، الذي درّسه النحو والفقه، ثم نَهَل من صافي المعرفة على أيدي شيوخ أجلاء كسيدي محمد بن عبد الرحمان بن المكي، والشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي المنوفي، ولم يكتفِ الشيخ بهذه المحطة، بل شد الرحال إلى مدرسة الشيخ مولاي أحمد الطاهري الإدريسي بسالي، حيث أقام سبع سنوات ينهل منها، منهياً بذلك رحلة التأسيس العلمي.
منارة مصعب بن عمير
لكن العالِم الحق هو من يعود ليضيء مسقط رأسه، عاد الشيخ إلى مدينة أولف في مستهل الخمسينات، وفي قلبه مشروع لا يضاهى: تأسيس صرح قرآني شامخ سماه على اسم حامل اللواء، الصحابي الجليل مصعب بن عمير. هذه المدرسة ليست مجرد كتّاب، بل كانت منارة متكاملة فتحت أبوابها لاستقبال الطلبة من مختلف ربوع الوطن والدول المجاورة، منهجها يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فإلى جانب القرآن والسنة النبوية والفقه المالكي، كانت تقدم دروساً في التوحيد واللغة والسيرة النبوية، هذا الصرح التعليمي ما زال مستمراً في عطائه إلى يومنا هذا، ليشهد على عمق الغرس الذي غرسه الشيخ.
رحلات الإفادة والإصلاح
لم يكن الشيخ باي بلعالم حبيس زاويته، بل كان رحّالة بامتياز، عرفت خطواته دروب الوطن وخارجه إلى بلدان عربية وإفريقية، لكن رحلاته العظمى كانت إلى بيت الله الحرام، حيث حج حوالي 38 مرة، لم يكن الحج لديه مجرد أداء فريضة، بل كان مؤتمراً سنوياً مفتوحاً، يغتنم الفرصة للقاء العلماء والأساتذة والباحثين من أصقاع العالم الإسلامي، فيتبادل معهم المعرفة ويُفيد ويستفيد، و كان رحمه الله مدافعاً صلباً عن المذهب المالكي بالحجة والدليل، وفي الوقت ذاته، كان بقلب منفتح على سائر المذاهب، مؤمناً بأن الحوار هو جسر العلم.
خلق العالم والزاهد: تواضع وجُود
تلك السيرة العلمية الجليلة لم تكن لتكتمل لولا زينة الأخلاق التي تحلّى بها، وعُرف عنه الحلم والعفو عند المقدرة، والتواضع ولين الجانب مع الناس، فلم يكن يُميز بين زواره، فباب زاويته وقلبه مفتوح للكل، وكان رحمه الله كريماً جواداً، وكانت زاويته ومدرسته عامرة بالضيوف، لا يرد صاحب حاجة، ويُروى عنه لفتة إنسانية دافئة، حيث كان لا يخرج من بيته إلا وكيس الحلوى رفيقه، ليُسعد كل طفل يصادفه في طريقه؛ صورة تروي عمق الإنسانية في رجل العلم.
تراث راسخ: مكتبة من أربعين مؤلفاً
رحل الشيخ، لكن ترك لنا مكتبة عامرة، تجاوزت الأربعين مؤلفاً في فنون شتى، من شروح ونظم وتحقيقات، و كان قلمه يخدم اللغة والفقه والحديث والسيرة، فمن روائعه في النحو واللغة: اللؤلؤ المنظوم على نثر ابن آجروم ومنحة الأتراب على ملحة الإعراب، وفي الشروح الفقهية: زاد السالك شرح أسهل المسالك والكوكب الزهري نظم مختصر الأخضري، كما له بصمات في علم الغريب القرآني في ضياء المعالم، وفي الحديث والآثار في كشف الدثار، ولم ينسَ السيرة النبوية فكتب فتح المجيب على سيرة النبي الحبيب.
بالإضافة إلى ذلك، ترك عشرات القصائد وأكثر من 20 رحلة مدونة للحج والعمرة، كما وثّق جزءاً من تاريخ المنطقة في الرحلة العلية إلى منطقة توات وقبيلة فلان في الماضي والحاضر.
الختام المهيب: خلود الأثر
في عام 2009م، أسدل الليل ستاره الأخير على حياة هذا الشمس، وشُيِّعت جنازة الشيخ محمد باي بلعالم في موكب مهيب يليق بمكانته، حضرته السلطات الولائية والوطنية، لقد غاب الجسد، لكن بقيت روحه متجسدة في كل طالب تخرج من مدرسة مصعب بن عمير، كل من مرض دروسه ومحاضراته، وفي كل كلمة خُطت بمداده في مؤلفاته النفيسة، إنه لم يمت، بل خُلد في ذاكرة توات والجزائر؛ شاهداً على أن العلم المقرون بالتربية والخلق الكريم هو الميراث الحقيقي الذي لا يزول، رحم الله شيخنا الجليل وأسكنه فسيح جناته.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق