يا دمعة الحرف، ويا أنين القلم، خُطِّي في سجل الخالدين سيرة شيخ لم يمت؛ بل ارتقى ليستقر في جنان الذكرى الطيبة والعمل الصالح.
في كل عام، تتجدد ذكرى رحيل قامة شامخة من قامات العلم والتربية والإحسان، ذكرى وفاة العالم العلامة، والشيخ المربي، حفصي عبدالرحمن بن إبراهيم، إمام مسجد عمنات ببلدية أولف قيد حياته، إذ لم يكن شيخنا مجرد اسم يُذكر أو وظيفة تُمارس؛ بل كان مدرسة متنقلة، ومشكاة نور أضاءت دروب السالكين إلى الحق والفضيلة.
جوهر الروح وصدق المنهج
لقد كان الفقيد، رحمه الله، مثالاً حياً ونادراً للتقوى و العلم الرباني والزهد، جمع بين رصانة الفقيه وشفافية الصوفي الحقيقي النقي، ذلك التصوف الذي يرتكز على تصفية الباطن وإخلاص العمل، تصوف يذكرنا بصفاء ونقاء نهج إبراهيم بن أدهم؛ حيث الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة أمام رضوان الله.
لقد عاش الشيخ حفصي متوشحاً بعباءة التواضع الجم، متزيناً بأخلاق حسنة رفيعة كانت دليلاً لا يُخطئ على علو مكانته الروحية، ولم تكن حكمته مجرد أقوال تُردد؛ بل كانت نابعة من بصيرة نافذة أهداها الله لأوليائه، مصحوبة بتقوى جعلت كل عمله خالصاً لوجهه الكريم، وكان التواضع درعه، والمحبة شعاره، والحكمة سيفه الذي يوجه به القلوب نحو الخير.
منار التربية والإحسان
أينما حلّ الشيخ، حلّت معه السكينة والرحمة، كانت سيرته بين الناس تجسيداً عملياً لرسالة الإسلام السامية؛ يرحم الصغير بقلبه الدافئ، حيث كان ملاذاً للأطفال والبسطاء، يمسح على رؤوسهم بيده المباركة ويدعو لهم بالخير، فيغرس في نفوسهم بذور المحبة والرحمة قبل بذور العلم، ويجل الكبير فيعرف للسن حقه وللفضل مكانته، يتحدث معهم بالوقار والاحترام الذي يليق بمن سبقوه في الحياة، معتقداً أن احترام الكبير هو احترام للزمن وللتجربة.
لقد كان مربياً في المقام الأول، يستخدم الحكمة والموعظة الحسنة سلاحين لبناء النفوس، لا يكل ولا يمل من نشر هذا العمل المبارك الذي ارتكز على التقوى كمنهج حياة.
محبة آل البيت: الوداد النقي
ومن أعظم شمائله التي زادت سيرته نوراً على نور، هي محبة أل البيت الطاهرين؛ تلك المحبة التي لم تكن مجرد عاطفة سطحية، بل كانت تديناً خالصاً وولاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله، وكان يرى فيهم امتداداً للنور النبوي، ومصدراً للعلم والتوجيه، فكان يتولاهم بالمحبة الصادقة والود النقي.
يا لفقْدِ مَن كان طهراً ونقاءً، إن رحيل أمثال الشيخ حفصي هو ثلمة في جدار الأمة، لا يسدها إلا صدق الدعاء وعمق الاقتداء بسيرته العطرة.
دعاء وعهد
في ذكرى رحيله، لا تملك الأرواح التي ارتوت من علمه وأخلاقه إلا أن ترفع أكف الضراعة:
اللهم يا رب العالمين، يا من وسعت رحمته كل شيء، جازِ المرحوم الشيخ حفصي عبدالرحمن بن إبراهيم خير الجزاء وأوفاه بما علّم وربّى وزكّى، اللهم تفضّل عليه وتوّله في كنفك ورحمتك الواسعة، وأكرم نزله ووسع مدخله، اللهم اجعل ما قدمه من علم وعمل وتربية في ميزان حسناته، واجعل قبره روضة من رياض الجنة.
اللهم أدخله جناتك بغير حساب، واجمعنا به وبأحبائنا تحت لواء حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
فسلامٌ على روحه الطاهرة في علّيين، وعهدٌ على الأجيال أن تقتفي أثره؛ لتظل منارة عمنات في أولف خاصة وأولف وماجارورها شامخة بفضل ما غرس فيها من قيم وعلـم.
رحم الله شيخنا الجليل وأسكنه فسيح جناته.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق