إنَّ الكلمةَ ليست مجرد حروفٍ تُنطق، بل هي روحٌ تُبثّ، ونورٌ يُشعّ، أو نارٌ تحرق، في ميزان الشريعة الغرّاء، تُعدّ "الكلمة الطيبة" فريضةً ومسلكا، ومنهج حياةٍ قويم، لا يرتضيه الله إلا سبيلاً للتعامل بين البشر، لقد أرشدنا الحقّ تبارك وتعالى إلى هذا الأدب الرفيع في صُلب كتابه الحكيم، جاعلاً إياه منارةً تُضيء دروبنا المعتمة.
الوصية الإلهية: الحسنى والأحسن
في سورة البقرة، يترسّخ أمرٌ إلهيٌّ جامعٌ وشاملٌ يتجاوز حدود التعامل مع المؤمنين إلى رحاب الإنسانية كلها: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]. هذه وصيةٌ كريمة لا تفرّق بين قريبٍ وبعيد، وصديقٍ وعدو، بل تجعل من "القول الحسن" جسرا للتواصل والتعايش السليم.
ويتعاظم هذا الأدب في آيةٍ أخرى ليرتقي من مرحلة "الحُسن" إلى مرتبة "الأحسن"، حيثُ يُخاطب ربّ العزة نبيّه الكريم بأمرٍ يحمل في طيّاته بلاغةً وتهذيباً لا يُضاهى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]. إنَّ الانتقاء الدقيق لأفضل الأقوال، وتجنُّب ما دونها، ليس مجرّد خيارٍ، بل هو منهجٌ ربانيٌّ يُصقل النفوس ويهذّب الطباع، ويقوّي أواصر المودّة والتفاهم حتى في أشدّ المواقف ضراوة.
القول الليّن: رحمةٌ حتى مع الجبارين
ولم يقتصر الأمر على حُسن القول مع المتوافقين، بل امتدّ ليشمل مواجهة الطغيان والتجبّر بأدوات اللين والرفق، تلك هي قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون، الذي ادّعى الربوبية وتجاوز كل حدٍّ في الكفر ومع ذلك، تأتي التوجيهات السماوية صادمةً في روعتها ومفاهيمها: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. إنَّ هذا "القول الليّن" ليس ضعفاً، بل هو قوةٌ كامنةٌ في الإيمان بالغيب، واستخدامٌ لأسلوبٍ يفتح كُوّةً في جدار القسوة، لعلّ نور الحقّ يتسرّب إلى قلبٍ أظلمته الغفلة. إنها إشارةٌ عميقة إلى أنَّ الغاية لا تُبرّر الوسيلة الجارحة، وأنَّ الدعوة إلى الحقّ يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
صمام الأمان: إلا مَن ظُلِم
وإذ يضع القرآن الكريم هذه الأسس الراسخة للقول البليغ والمهذّب، فإنه يضع أيضًا صمام أمانٍ للعدل والانتصار للمظلوم، فبينما يكره الله الجهر بالسوء من القول، فإنه يستثني حالةً واحدةً تُنطق المكلوم بالحقّ الذي سُلِب منه: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]. هذا الاستثناء ليس دعوةً للفحش، بل هو إقرارٌ بحقّ المظلوم في رفع صوته وطلب إنصافه، فهو تصريحٌ إلهيٌّ بمشروعية الشكوى وطلب الحماية، في نظامٍ يوازن بين أدب القول ومتطلبات العدالة.
النبوة: خاتمُ آداب اللسان
ولم تكن السنة النبوية الشريفة إلا تتويجاً وتنفيذاً عملياً لهذه المبادئ القرآنية العظيمة، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم "الكلمة" معياراً للإيمان، قائلاً: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". هذا الحديث لا يترك للمرء منطقةً رماديةً بين الخير والشر، بل يضعه أمام خيارين حاسمين: فإما أن تكون الكلمة نوراً يُهتدى به، وإما أن يكون الصمت حكمةً تُنجي من الزلل.
وفي وصفٍ بليغٍ للمؤمن الحقّ، نفى عنه النبي صفاتٍ تُخرجه عن دائرة الأدب والكمال الروحي: "المؤمن ليس بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ البذيءِ". إنَّ المؤمن ليس ذا لسانٍ حادٍ يجرح به كرامة الآخرين (الطعان)، ولا لساناً مُنفلتاً يُطلق اللعنات (اللعان)، ولا لساناً مُنحطاً يتداول الكلمات القبيحة والبذيئة، بل هو صاحب منطقٍ سليم، ولسانٍ عفيف، وروحٍ سامية لا تنزل إلى درك القول الساقط.
خاتمة: الكلمة هي المسؤولية
إنَّ هذه النصوص المقدسة، مجتمعةً، ترسم لنا خريطةً واضحةً لحياةٍ كريمة تقوم على احترام الكرامة البشرية، وتقديم اللين على الغلظة، وتفضيل الحُسنى على السوء، فالكلمة إذن هي أمانةٌ في عنق كلّ مُتكلّم، ومسؤوليةٌ كبرى تُسجّل في صحيفة الأعمال، فلنتأمل ملياً في كلّ حرفٍ نَنطق به، ولنتذكّر دائماً أنَّ لساننا ترجمانٌ لما في قلوبنا، وأنَّ حُسن قولنا هو صراطٌ مستقيمٌ ليس إلى قلوب الناس فحسب، بل إلى مرضاة ربّ الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق