كيف يصنع الإنسان الصالح
علينا أن نكون يقين أن الاستثمار الحقيقي هو في صناعة الإنسان بالضمير والقيم، و الوعي بهذه الحقيقة يجب أن لايظل مُجرَّد مقولة جميلة، ولكن يجب أن نُحوله إلى هندسة تطبيقية تُترجم تلك القيم الروحية إلى عادات يومية وبرامج عملية تُشكّل نسيج حياتنا والمجتمع.
إنَّ القيم التربوية المستمدة من معين الإسلام الصافي ليست لوحات فنية تُعلَّق للتأمل، بل هي أدوات عمل تحتاج إلى ورشة صيانة وتدريب مستمر لتؤدي وظيفتها بكفاءة.
المحور الأول: "الضمير اليقظ" كمهارة مُتدربة
الضمير هو الرقيب الداخلي الذي يُسوِّي قامة الروح، ولا يمكن تركه للصدفة، ويجب تدريب هذا الضمير عبر آليات واضحة:
1. برنامج "المحاسبة اليومية":
الفكرة: تخصيص وقت هادئ لا يتجاوز خمس دقائق قبل النوم.
التطبيق: يُسجل الفرد سؤالين رئيسيين: "ما هو الفعل الإيجابي الذي مارست فيه قيمة الإحسان اليوم؟" و "ما هو الموقف الذي كان عليّ فيه مقاومة اعوجاج الفطرة؟"
الأثر: تحويل مفهوم المراقبة الإلهية من فكرة مجردة إلى ممارسة يومية تُشحذ بها قوة الإرادة.
2. مشروع "القدوة المتحركة":
الفكرة: أن يصبح الفرد نموذجا عمليا للقيمة التي يدعو إليها.
التطبيق: في مؤسسات العمل والتعليم، يجب مكافأة السلوك القيمي (مثل الصدق في الاعتراف بالخطأ، أو الأمانة في الأداء) بنفس درجة مكافأة الإنجاز المادي.
الأثر: نزع صفة "الخيال" عن القيم ودمجها في نسيج الواقع الاجتماعي والمهني.
المحور الثاني: "القيم التربوية" كعادات مُكتسبة
القيم ليست صفات تُورث، بل عادات تُكتسب بالتكرار والمواظبة،و يتطلب ذلك تصميم بيئات عمل وتربية تُشجع على السلوك القيمي:
1. منهجية "القيمة الشهرية المركزة":
الفكرة: التركيز على قيمة واحدة فقط (مثل "العدل"، أو "الإتقان"، أو "الرحمة") لمدة شهر كامل.
التطبيق: تصميم فعاليات وأنشطة تعليمية ومهنية تدور حول هذه القيمة، فإذا كان الشهر مخصصًا لـ "الإتقان"، تُقام ورش عمل حول جودة الأداء، وتُطلق مسابقات لأفضل عمل مُنجز بأعلى دقة، وتُقرأ قصص القدوة في الإتقان.
الأثر: تحويل القيمة من كلمة إلى تجربة حسية ومعرفية عميقة.
2. ركن "المسؤولية المجتمعية المُعيّنة":
الفكرة: تحويل قيمة الإيثار أو التعاون إلى مهام محددة.
التطبيق: إلزام كل فرد (طالب، موظف، رب أسرة) بمساهمة مجتمعية صغيرة ومُعيّنة بوضوح (مثل: "مساعدة زميل ضعيف في المادة لمدة ساعة أسبوعيا"، أو "تنظيف جزء من المرافق المشتركة مرة شهريا").
الأثر: تجاوز الأنانية الفردية وخلق إحساس عميق بالانتماء يترجم القيم إلى خدمة متبادلة.
المحور الثالث: القياس والتقويم (مقياس الاستقامة)
لن تكتمل هندسة التطبيق دون نظام لقياس مدى استقامة "قامة الروح" التي نسعى لبنائها:
التطبيق: يجب تطوير أدوات تقويم غير تقليدية ترصد السلوك القيمي.
مثال: في المدارس، يُقيّم الطالب جزئيا على "معدل تعاون" و "معدل صدق" يُرصده المعلمون والأقران، وليس فقط على الإجابات الأكاديمية.
الأثر: إرساء رسالة واضحة مفادها أن القيمة الأخلاقية لها ثِقَل يوازي، إن لم يتجاوز، ثِقَل الكفاءة المادية.
الخاتمة: بناء جيل "القوة الإيجابية"
إن تحويل القيم إلى برامج عملية ليس ترفا تربويا، بل هو الضمان الوحيد لنتائج الاستثمار في الإنسان، وعندما يصبح الضمير مُدرّبا، والقيمة عادةً مُكتسبة، والمحاسبة عملية قياس واضحة؛ نكون قد أطلقنا بالفعل جيلاً يُشكّل قوة دفع إيجابية لا يمكن إيقافها، جيلا قامة روحه مستوية، وأثره في الأرض عظيم.

































































