الشيخ العلامة المربي محمد باي بلعالم: حياة علمية حافلة بالعطاء.
الشيخ العلامة محمد باي بلعالم، أحد أبرز علماء القرن العشرين، وُلد سنة 1930م في بأولف ( ببلدة ساهل ) الواقعة في ولاية أدرار بجنوب الجزائر. نشأ في بيئة دينية علمية، حيث كان والده وأهل بلدته من حملة العلم والقرآن. بفضل تلك البيئة، برز منذ صغره طالبًا للعلم بشغف، ثم أصبح عالمًا جليلًا يُشار إليه بالبنان، تاركًا بصمة واضحة في مجال العلوم الشرعية والدعوة الإسلامية.
نشأته العلمية ورحلة طلب العلم
بدأ الشيخ محمد باي بلعالم مسيرته العلمية بحفظ القرآن الكريم في صغره، ثم اتجه إلى دراسة علوم الشريعة واللغة العربية في حلقات العلم التي كانت تُقام في بلدته أولف. أبدى الشيخ منذ البداية ذكاءً حادًا وذاكرة قوية أهلته لتلقي العلم بسرعة وإتقانه بمهارة.
كانت رحلته في طلب العلم متواصلة، حيث تتلمذ على يد نخبة من علماء عصره، لكن أبرز محطة في مسيرته كانت علاقته بشيخه الجليل مولاي أحمد الطاهر السباعي الإدريسي الحسني، الذي يُعدّ من أركان العلم في المنطقة، التحق بالمدرسة الطاهرية، وكان أول طالب يفد إليها من خارج سالي، مكث فيها سبع سنوات، وتخصص في علوم الفقه، أصوله، الحديث، التفسير، النحو، الصرف، وعلم الفرائض. كان شديد الأدب مع شيخه، ينهل من علمه ويقتدي بسيرته. وقد منحه شيخه إجازة علمية عامة تقديرًا لتحصيله.
علاقته بشيخه مولاي أحمد الطاهر
ارتبط الشيخ باي بعلاقة خاصة ومميزة مع شيخه مولاي أحمد الطاهر. لم يكن مجرد طالب علم لديه، بل كان أحد أقرب المريدين إليه، حتى وصفه شيخه بأنه من أنجب طلابه وأكثرهم فهمًا واستيعابًا.
كان الشيخ مولاي أحمد الطاهر يوصي طلبة العلم بحضور مجالس الشيخ باي، قائلاً:
“رجائي في الله إذا حاضرت في مجلس لا يتكلم أحد أمامك.”
ومن أعظم ما ورد عن الشيخ مولاي أحمد الطاهر أنه قال فيه مرة متمثلا ببيت للشيخ المختار الكنتي الكبير:
“ألا فابشر فمني لك العطاء
بإذن الله فافعل ما تشاء”
“وأرجو أن تكون سراج حق
تدل الخلق أنت لهم ضياء”
وكان الشيخ مولاي أحمد - رحمه الله - يخصه بمعاملة استثنائية، إذ كان يمنع تلميذه المقرّب، الشيخ محمد باي، من الانشغال بالأعمال مع الطلبة في المدرسة، قائلاً له:
“أريد منك أن تفرغ للكتابة والبحث في الفتاوى
والمسائل الفقهية.”
هذا التوجيه يعكس مدى اهتمام الشيخ مولاي أحمد بإبراز موهبة الشيخ باي العلمية، وإفساح المجال أمامه للتفرغ للبحث والكتابة، مما كان له أثر كبير في إنتاجه العلمي الغزير.
ومما يعكس تعلق الشيخ محمد باي بلعالم بشيخه الشيخ مولاي أحمد الطاهر، ما كتبه في باكورة مؤلفاته في علم المواريث “الدرة السنية في علم ما ترثه البرية”، التي ألّفها وهو تلميذ في المدرسة الطاهرية، حيث قال في مقدمتها:
“فهاك فيه درة سنية
في علم ما ترثه البرية”
“أخذتها من شيخنا الحبر الأديب
مولاي أحمد بن إدريس النجيب”
“لازال باقيا لبث العلم
يرشد ذا ضلالة للفهم”
تُبرز هذه الأبيات مكانة شيخه الكبيرة في نفسه، واعترافه بفضل الشيخ مولاي أحمد الطاهر في تعليمه، كما تعكس شدة تعلقه بشيخه وإجلاله لدوره في نشر العلم والهداية.
وكان الشيخ باي يبادل شيخه الحب والاحترام، حيث جمع له الناس في بلدته أولف عند زيارته، وبذل كل ما يملك في سبيل إكرامه. وعندما وافته المنية، رثاه الشيخ باي بقصائد مؤثرة، من بينها قوله:
“فالصّبــر عِيـل والآفـاق تغيّـرت
والصُّبح مثلُ اللّيل في الدّهَمـات”
وقد أظهرت الرسائل المتبادلة بينهما مدى هذا الأدب الرفيع. ففي إحدى رسائل شيخه، أوصاه بالتقوى والعمل بالسنة، وعدم الانشغال بمتاع الدنيا الفانية، وهو ما التزم به الشيخ باي طوال حياته. ظل الشيخ يشعر بأنه في كنف شيخه حتى بعد مغادرته المدرسة، ملتزمًا بنهجها العلمي والروحي.
جهوده في التعليم والدعوة
بتوجيه من شيخه مولاي أحمد، أسس الشيخ باي مدرسة “مصعب بن عمير” في منطقة الركينة بأولف، وذلك في الخمسينيات، رغم مضايقات الاستعمار الفرنسي. خرجت المدرسة عددًا كبيرًا من العلماء والأئمة الذين حملوا مشعل الدعوة والتعليم.
كان الشيخ نشيطًا في عقد مجالس الصلح بين الناس، والإشراف على توزيع المياه، وإقامة عقود النكاح، ولم يكن يدخر جهدًا في تعليم العامة أمور دينهم، والمشاركة في الملتقيات الإسلامية داخل الجزائر وخارجها.
إنجازاته العلمية وتصانيفه
اشتهر الشيخ محمد باي بلعالم بإنتاجه العلمي الغزير، حيث ترك إرثًا من المؤلفات التي تنوعت بين التفسير، الفقه، واللغة العربية. كانت مؤلفاته تتسم بالعمق والوضوح، مما جعلها مراجع قيمة للطلاب والعلماء.
من أبرز مؤلفاته:
• “زاد السالك شرح أسهل المسالك”كتاب في الفقه المالكي.
• “فتح الرحيم المالك في مذهب الإمام مالك (ألفية في الفقه عدد أبياتها 2509).
• “مجموعة الرسائل الفقهية”: تناول فيها مسائل فقهية معاصرة.
كما كان للشيخ دور بارز في التدريس ونشر العلم، حيث درّس العديد من الطلاب الذين أصبحوا علماء ودعاة حملوا رسالته من بعده.
صفاته ومواقفه
تميّز الشيخ باي بمجموعة من الصفات النبيلة التي جعلته محبوبًا بين الناس:
• التواضع: كان يعيش حياة بسيطة، بعيدًا عن التكلف والغرور، ويعامل الناس بودٍ ورحمة.
• الإخلاص: لم يكن يسعى وراء الأضواء أو المناصب، بل جعل همّه نشر العلم وخدمة الدين.
• الكرم والجود: كان بيته مفتوحًا للطلاب والزوار، ولم يبخل بشيء على من يقصده طالبًا للعلم.
• الزهد: عاش حياة زاهدة، لا يسعى وراء زخارف الدنيا، مركزًا على ما ينفعه في الآخرة.
وفاته وأثره الباقي
توفي الشيخ محمد باي بلعالم سنة 2009م، مخلفًا إرثًا علميًا وروحيًا خالدًا. لا تزال مؤلفاته تُدرّس في العديد من المدارس الشرعية والزوايا، وتُعدّ منارةً يهتدي بها السائرون على طريق العلم.
رثاه طلبته وأحبابه بأجمل الكلمات والقصائد، مُستذكرين فضله وتأثيره في حياتهم. فقد كان مثالًا للعالم العامل، الذي يجمع بين العلم والعمل، والأدب مع المشايخ والطلاب.
الخاتمة
كان الشيخ محمد باي بلعالم نموذجًا للعالم الرباني الذي اتسم بالعلم الغزير، التواضع، والإخلاص. نسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، وأن يجعل علمه نورًا يهتدي به الباحثون عن الحق، ومثالًا يُحتذى به للأجيال القادمة.
لقد ترك الشيخ باي بلعالم أثرًا خالدًا في العلم والدعوة، وسيبقى علمه شاهدًا على حبّه للعلم وخدمته لدينه وأمته.
منقول من صفحة محبي شيوخ علماء توات على الفيس بوك

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق