في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، لا نحتفي مجرد احتفاءٍ بلغةٍ منطوقة، بل نقفُ إجلالاً لظاهرةٍ حضاريةٍ استثنائية، وركنٍ حصينٍ من أركان التنوع الثقافي للبشرية جمعاء؛ فالعربية التي تسكنُ ألسنةَ ما يزيد على أربعمائة مليون إنسان حول المعمورة، ليست مجرد وعاءٍ لنقل الأفكار، بل هي روحٌ تسري في جسد التاريخ، وصوتٌ يترددُ صداه من عمق الصحراء ليبلغ أعلى مقامات المجد العلمي والمعرفي. إنها اللغة التي لم تقف يوماً عند حدود التعبير، بل كانت وما تزال جسراً ممتداً يربط بين حضارات الأمم، ومنارةً أضاءت ليل العصور الوسطى بترجماتها وعلومها وفلسفتها، حتى غدت اليوم إحدى أكثر اللغات انتشاراً وحيوية في العالم المعاصر.
وفي هذا العام، يرفع شعار "مسارات مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات من أجل مستقبل لغوي أكثر شمولاً"، ليكون بمثابة بوصلةٍ توجهنا نحو فضاءاتٍ جديدة لا تكتفي باستحضار الماضي المجيد، بل تستشرف آفاقاً لم تكن مطروقة من قبل. إن هذا الشعار يحمل في طياته إيماناً عميقاً بأن لغتنا العربية قادرة على التكيف مع متطلبات العصر الرقمي، وأنها تمتلك من المرونة والاشتقاق ما يجعلها لغةً للذكاء الاصطناعي والبحث العلمي والابتكار التقني. إن الشمولية التي ننشدها اليوم تقتضي منا أن نفتح أبواب اللغة لكل طيفٍ إنساني، وأن نصيغ سياساتٍ لغوية تحمي هذا الإرث وتجعله متاحاً بأساليب تعليمية حديثة وممارسات إبداعية تخاطب عقول الأجيال الجديدة بلغتهم التي يفهمون، وبأدواتٍ تواكب سرعة التحول في هذا العالم المتسارع.
إن مسؤوليتنا تجاه لغتنا في يومها العالمي تتجاوز حدود الاحتفال العابر، فهي دعوةٌ لإعادة الاعتبار لهذا البيان الساحر الذي يتميز بمفردات الصوت وإعجاز التركيب. إن العربية اليوم تواجه تحديات الاندماج في العولمة الثقافية، وهذا لا يتطلب منا الانغلاق، بل يتطلب اجتراح مسارات مبتكرة تجعل من لغتنا أداةً فاعلة في إنتاج المعرفة لا مجرد مستهلكٍ لها. إنها لحظةٌ لترسيخ السياسات التي تدعم المحتوى العربي الرقمي، ولتطوير الممارسات التي تدمج اللغة في صلب الصناعات الإبداعية، لتبقى العربية دائماً لغةً نابضة بالحياة، وشاملة لكل فئات المجتمع، وقادرة على صياغة مستقبلٍ يليق بعراقتها وجلالها؛ فهي كانت وسوف تظل لغة الضاد التي لا تشيخ، والجمال الذي لا ينضب، والرباط الذي يجمع القلوب على مائدة الفكر والأدب الرفيع.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق