في صميم شتاء 1960، وبينما كانت رياح التغيير تهب على العالم المستعمر، انبعثت من الجزائر صرخة مدوية اخترقت جدران الصمت والقمع، إذ لم يكن 11 ديسمبر 1960، يوما عاديا في سجلات تاريخ وثورة الجزائر، بل كان يوما فارقا أعلنت فيه الأمة الجزائرية عن نفسها بوضوح لا يقبل التأويل، مجسدةً إرادة شعبية عارمة بوجه طغيان مزدوج، حيث خرج الجزائريون، بصدور عارية وإيمان راسخ، في مظاهرات سلمية حملت في طياتها ثقل تاريخ من النضال المرير، مؤكدين بلسان واحد المطلب الأسمى: تقرير المصير، ولم تكن هذه الحركة وليدة اللحظة، بل كانت تتويجاً منطقياً لتضحيات جسام، ورفضاً قاطعاً لمحاولات الاحتلال الفرنسي المستمرة لتزييف الحقائق وطمس الهوية الوطنية.
لقد جاءت هذه الانتفاضة الجماهيرية لتواجه بعزيمة فولاذية سياسة الجنرال شارل ديغول التي حاولت تقديم حلول ملتبسة تحت ستار "الجزائر الجزائرية"، وهي محاولة ذكية لإبقاء البلاد مرتبطة بفرنسا وإفراغ استقلالها المستقبلي من أي سيادة حقيقية، وفي الوقت ذاته، كانت تلك الحناجر الصارخة هي الحاجز الأخير ضد أوهام المعمرين الفرنسيين الذين ظلوا يحلمون بفكرة عتيقة مريضة تدعى "الجزائر فرنسية"، وبين مطرقة الإبقاء على التبعية وسندان الحلم بالهيمنة الدائمة، اختار الشعب الجزائري طريقه الثالث: الاستقلال التام والسيادة الكاملة، فكانت تلك المظاهرات رسالة واضحة، كُتبت بالإباء الشعبي، بأن زمن الوصاية قد ولى إلى غير رجعة، وأن مفتاح القرار لا يمكن أن يكون إلا في أيدي أبناء الوطن.
لكن الرد على هذه الإرادة السلمية لم يكن إلا مزيداً من العنف والوحشية المفرطة، فبدم بارد، واجهت السلطات الفرنسية جموع المتظاهرين المسالمين بقمع لا إنساني، محاولة إسكات صوت الحق بالرصاص والدم، فسقط العديد من الشهداء الأبرار في ذلك اليوم المشهود، لكن كل قطرة دم سفكت لم تذهب هدراً؛ بل تحولت إلى وقود أشعل جذوة النضال ووثيقة إدانة دولية لجرائم الاحتلال الفرنسي الغاشم والمستبد، فكشفت تلك المجازر عن الوجه الحقيقي للاستعمار الذي يزعم الديمقراطية، مثبتاً أن لغة العنف هي وسيلته الوحيدة لفرض إرادته.
إن الأثر الحقيقي لمظاهرات 11 ديسمبر لم يقتصر على حدود الجزائر، بل تجاوزها ليصبح نقطة تحول حاسمة في مسار الثورة، فبفضل هذه التضحيات الجليلة وهذه الوقفة الشجاعة، أصبحت القضية الجزائرية قضية عالمية بامتياز، تلامس ضمير الإنسانية وتشعل شرارة التضامن الدولي، وأكدت هذه المظاهرات، بما لا يدع مجالاً للشك، أن دعم الشعب الجزائري للثورة هو دعم شامل وعميق، وأن المعركة لم تكن معركة فئة قليلة، بل كانت معركة الأمة بأسرها، هذا اليوم الخالد لم يكن مجرد ذكرى لمواجهة دامية، بل هو تجسيد حي لعظمة الصمود، ورمز للأجيال المتعاقبة بأن الحرية تُكتسب بالموقف المبدئي والتضحية التي لا تُنسى، إن 11 ديسمبر 1960 يظل منارة تضيء طريق الكرامة الوطنية الجزائرية، وشاهداً على أن الإرادة الشعبية إذا ما توحدت، فإنها قوة لا تقهر أمام جبروت المستبد.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق