السبت، 6 ديسمبر 2025

قامة الروح: الاستثمار الأبقى في صناعة الإنسان

في موازين الحضارات وتقدم الأمم، غالبا ما يُستحوذ على الأبصار بريقُ الآلة، وصليلُ الحديد، ودويُ الابتكارات المادية، حيث تُنفق المليارات في تشييد المصانع العملاقة وتطوير التقنيات الفائقة، ويُعدُّ ذلك- بحق- استثمارا في القوة الظاهرة، ​ولكن هل هذا هو الاستثمار الأعظم والأبقى؟

​إن الحقيقة الخالدة التي تتوارثها الأمم الحكيمة هي أن أعظم استثمار نقوم به ليس في الآلات، بل في صناعة الإنسان، هذه الصناعة ليست مجرد تلقين أو حشو معلومات، بل هي عملية بناء شاملة تبدأ من اللب، من الضمير المتيقظ، والقيم التربوية الراسخة.

معين الإسلام الصافي: ينبوع القيمة

​لا يمكن لعملية البناء هذه أن تتم في فراغ، أو أن تُستمد من نظريات عابرة، لأنها تحتاج إلى معين صافٍ لا يكدره الزمان ولا تغيره الأهواء، وهذا المعين هو المنهل العذب لقيم الإسلام الرفيعة، ليست هذه القيم مجرد وصايا تُتلى في المحافل أو شعارات تُرفع على اللافتات، إنها القوة الهادئة التي تعمل بصمت على:

​تَسْوِيَة قامة الروح: إن روح الإنسان كالنبتة، تحتاج إلى تقويم ورعاية، هذه القيم هي سمادها وريّها، ترفعها عن دنايا الشهوات، وتسمو بها نحو معالي الأخلاق، فتصبح الروح مستقيمة كالرمح، لا تهتز أمام الفتن.

​إصلاح اعوجاج الفطرة: الفطرة السليمة قد تعوج بفعل المؤثرات السلبية والبيئات المضللة، فتأتي تعاليم الإسلام لتكون الإرشادات التي تُصلح هذا الاعوجاج، وتُعيد الإنسان إلى أصله النقي من عدل، وإحسان، وصدق، ورحمة.

​من الوصية إلى الممارسة: قوة الدفع الإيجابية

​إن الخطر الأكبر على القيم هو أن تظل حبيسة الكتب والمواعظ، والقيمة التي لا تُمارَس هي جسد بلا روح، وقانون لا يُنفذ، ولكي تتحول هذه التربية إلى قوة حقيقية دافعة للمجتمع، يجب أن تكون ممارسة يومية، وسلوكا معاشا.

​يتحقق الاستثمار في الإنسان عندما يتحول الفرد المؤمن بهذه القيم إلى:

​قوة دفع إيجابية في محيطه، و​عامل إصلاح لا عامل هدم، ومنارة للخير في زمن الظلمة، و​عندما يكون التاجر أمينا لأن ضميره حي بقيمة المراقبة الإلهية، وعندما يكون الموظف متقنا لعمله بقيمة الإحسان، وعندما يكون الجار رحيما لجاره بقيمة الأخوة، هنا فقط ندرك أننا لم نستثمر في الفرد فحسب، بل استثمرنا في حصانة المجتمع بأكمله.

الخاتمة: الاستثمار الذي لا يَبُور

​إن الآلات تبلى، والتقنيات تتقادم، والمباني تُهدم، أما الاستثمار في صناعة الإنسان ذي الضمير، المؤمن بالقيم الأخلاقية العامل بها، فهو الاستثمار الذي لا يَبُور أبدا.

​هذا الإنسان الصالح هو اللبنة التي لا تتآكل، وهو القائد الحقيقي الذي لا يضل، وهو القوة الدافعة التي لا تخمد، وهو سرّ الازدهار الخفي، وعمود النهضة الذي لا ينكسر.

​فلنعد بوصلة جهودنا وأموالنا ووقتنا نحو هذا الهدف النبيل: صناعة الإنسان الذي يحمل قيما، ويُطبّقها ويُعلّمها، عندئذ سنرى بأعيننا كيف يرتفع بناء حضارتنا شامخا، متينا، ومستداما، بقامة الروح التي سُوّيت بالإيمان.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق