في الحياة الصاخب، وبين ركام التحديات والمتغيرات، يلوح في الأفق سؤالٌ ثقيل يطرق أبواب الوجدان: أين ذهبت دررُ أخلاقنا؟ تلك المآثر التي صاغت يوماً حضارةً كانت منارةً للدنيا، وبنت مجتمعاً كالجسد الواحد، تئنُ اليوم تحت وطأة النسيان والإهمال.
إنها في نظرنا أصولٌ خمسة، هي بمثابة أعمدة النور التي لا يستقيم بناء الإيمان والمجتمع إلا بها: الوقار، والرحمة، والعفو، والتسامح، والقول الحسن؛ هي ليست مجرد مفاهيم نظرية تُردد على المنابر، بل هي روح الدين وجوهر المعاملات، ومن المفترض أن تكون كالدم الذي يسري في عروق كل فردٍ ينتمي إلى هذه الأمة العظيمة. ولكن، يا للأسف، لقد أضحى المتمسكون بها في زماننا كالغرباء، وكأنهم يسبحون عكس تيارٍ جارف من العجلة والغلظة والجفاء.
الوقار والرحمة: ثوبُ الإيمان وسكينةُ القلوب
كم نحن اليوم بحاجة إلى "الوقار"، هذا السمتُ الهادئ الذي يمنح النفس ثقةً بلا غرور، وعمقاً بلا تصنّع، الوقار هو مرآةُ الإيمان الرصين، هو أن تكون حركتك وسكنتك، صمتك وكلامك، دليلاً على وجود قلبٍ عامرٍ يخشى الله ويجلّه، في غياب الوقار، تخفُّ الموازين، وتطغى السطحية، ويصبح الإنسانُ مجرد صدىً لما يراه ويسمعه، لا أصلاً راسخاً لا تهزه الرياح.
أما "الرحمة"، فيا لها من كلمةٍ عظيمة، إنها الصفة التي اختارها الله لنفسه، وجعلها أساساً لشريعتنا، الرحمة هي بلسمُ الجروح، وهي الشريان الذي يغذي جسد المجتمع بالحياة. كيف يُطيق قلبٌ أن يحمل لواء الإسلام وهو خالٍ من الرحمة تجاه الضعيف والمحتاج والمُخطئ؟ إنها ليست مجرد عاطفة، بل هي موقفٌ عملي يترجم إلى لين في القول، وعون في الفعل، وشفقة على حال الناس، وغياب الرحمة هو ما يُحوّل الخلاف إلى عداوة، والنقد إلى تجريح، والاختلاف إلى تقاطع.
فيالعفو والتسامح: مفاتيحُ طهارة النفوس
في زمنٍ تُؤجج فيه نارُ الانتقام وتُسجّل فيه الهفوات لتُستغل في ساعة الخصام، يصبح "العفو" و**"التسامح"** عملةً نادرة، بل هما إرادةٌ قوية لتجاوز الألم ودفن الضغينة.
العفو هو أن تمتلك القوة للانتقام ثم تسمو بنفسك فوق جرحك لتصفح، إنه قرارٌ شجاع يحررك أنت أولاً من سجن الحقد، ويُطفئ سعير الغضب في صدرك. أما التسامح، فهو المظلة الواسعة التي تحتضن زلات الآخرين، إيماناً منا بأن كل بني آدم خطّاء، وأن كمال الإنسان ليس في عدم خطئه، بل في قدرته على المراجعة والاعتذار، وفي قدرة أخيه على القبول والاحتواء، مجتمعٌ يغيب عنه العفو والتسامح هو مجتمعٌ هشٌّ ومُتصدِّع، لا يعرف إلا لغةَ الأخذ بالثأر، فيبقى رهين ماضيه وجراحه.
القول الحسن: صانعُ القلوب ومِعراجُ المودة
أخيراً، وليس آخراً، يأتي "القول الحسن"، هذه القيمة البسيطة في ظاهرها، العظيمة في أثرها، الكلمة الطيبة صدقة، والكلمة الجارحة سيفٌ بتّار. إن القول الحسن هو فَنُّ اللباقة الممزوجة بالصدق، هو أن تختار الكلمات كما تختار أجود الثمار، فلا تجرح، ولا تسخر، ولا تُقصي.
عندما يهجرنا القول الحسن، تتحول لغة الحوار إلى لغة الخلاف والصراخ، وتتبادل الاتهامات كأنها سهام مسمومة. كيف لنا أن ندعو إلى الله أو ندعو إلى الخير بكلمةٍ قاسية أو تعبيرٍ فظّ؟ إن اللين في الخطاب هو الذي يفتح القلوب المقفلة، وهو الذي يُليّن النفوس المستعصية، وهو ترجمةٌ صادقة لامتلاك الوقار والرحمة في آن واحد.
نداءٌ إلى اليقظة
إن الإقرار بقلة المتمسكين بهذه القيم اليوم ليس دعوةً إلى اليأس، بل هو صرخةُ تحذيرٍ ونداءُ يقظة. إن جوهر هويتنا الإسلامية، وقوتنا كمجتمع، لا تكمن في كثرة العبادات الظاهرة فحسب، بل في جودة الأخلاق والمعاملات.
لنجعل من الوقار زيناً، ومن الرحمة دثاراً، ومن العفو والتسامح جناحين نطير بهما فوق صغائر النفوس، ومن القول الحسن بستاناً تُزهر فيه المودة والاحترام. إن التمسك بهذه الدرر هو الجهاد الحقيقي في عصرنا، وهو السبيل الوحيد لكي تعود هذه الأمة إلى مكانتها: أمةً يُرى فيها الإيمانُ خلقاً قبل أن يكون قولاً.
فلنبدأ بأنفسنا الآن، لتكن أنتَ وأنتِ القلة التي تُحيي هذه القيم، فبكم تتغير الوجوه وتصفو القلوب.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق