قد يظن الكثيرون أن المرض والألم هما نقطة النهاية، أو عدوٌّ لا يُقهر يتربص بأحلامنا ويخطف منا عافيتنا لكن، في عمق هذه التجربة الإنسانية، تكمن حقيقة أسمى وأقوى بكثير؛ فالمرض والألم ليسا عدوّا، بل معلّمٌ إلهيٌّ، وصانعٌ للصبر على الشدائد، وموقدٌ لقوة كامنة لم نكن لنكتشفها لولا وهج الوجع.
إن كل وجع وكل شعور بالضيق ليس سوى اختبار، وبالصبر الجميل يتحول هذا الوجع إلى تحدٍّ ننتصر فيه على ضعفنا. فكيف لهذا الألم أن يكون سلمًطا نصعد به؟ إنه يتحول كذلك حينما نجعله وقودا لليقين، حينما نُطلق العنان للتوكل المطلق على الله والثقة التي لا تتزعزع في حكمته وقدرته، هذه الثقة تُعلينا نحو ذواتنا الحقيقية، تلك الذات التي وهبها الله لنا بكل ما فيها من قوة خفية، وتُشرق بنا نحو حياة لا نراها بالعين المجردة، بل نراها بأعماق أنفسنا المتصالحة والمستنيرة.
ركن الثقة الأعظم: حينما يتحول التوكل إلى سلاح
إنَّ أول مسمار يُدق في نعش اليأس هو اليقين المطلق بالله، فالثقة ليست مجرد شعور عابر، بل هي الميثاق الغليظ الذي يُبرم بين روح العبد وعظمة الخالق، إنها النور الذي يضيء دروب الشدة، ويُحوّل رمال الخوف إلى صخرة صلبة من الاطمئنان.
حينما تشتد الأوجاع ويُخيّم شبح المرض، فإن الروح الموكلة على الله لا تنظر إلى حجم المصيبة، بل تنظر إلى عظمة المدبّر الذي قال للشيء: كن فيكون، إن التوكل ليس استسلاما للسكون، بل هو قمة الحركة والعمل بالأسباب مع تفويض النتيجة لمن لا تُخفى عليه خافية.
الثقة بالله هي أن تعلم يقينا، أن السهم الذي خرج من قوس القضاء، لن يخطئ مرماه، وأن رحمته تتسع لكل وجع، وأن كرمه لا يخذل قلبا التفت إليه.
بهذه الثقة، يتحول المريض من كائن ضعيف إلى قائد داخلي، يرى في محنته رسالةً مُشفرةً، مفتاحها الصبر وكلمة سرها التوكل على الله فقط. يذوب المستحيل، وتصبح الحياة كلها – بكل آلامها – مسرحا لإظهار قوة الله في قلب العبد الواثق، وينتصر النصر الأكبر: نصر الروح على اليأس، و انتصار اليقين على الشك.
قيمة الذات ورفض الطريق الأسهل
النفس التي عرفت قيمتها حق المعرفة، هي نفسٌ لا ترضى بالسهولة ولا تختار الطريق الأقل مقاومة، وهي التي تدرك أن العظمة تُصنع في الأفران الحامية للتحديات، ولهذا بعد الثقة المطلقة بالله، تأتي الثقة بالنفس، كخطوة إيجابية وتفعيل للأسباب، قبل أن نثق بمن حولنا، فإن إيماننا بالعلم الذي نحمله أو نسعى إليه، يجب أن يكون يقينا يصل بنا إلى أعلى الدرجات، فلنستعمل عقولنا -هذه الهدية الربانية- فيما ينفعنا وينفع المجتمع، ولنحوّل كل معاناة إلى رسالةٍ عميقةٍ.
لنحوّل المرض والألم إلى رسالة نجاح، والخوف إلى قوة، والضعف إلى صلابة لا تلين.
صرخة الروح التي لا تُقهر
المستسلم هو من يرى المرض والألم قيدا، أما الروح التي لا تُقهر، فترى فيهما فرصة، لذلك علينا أن نرفض الاستسلام والهروب من المشاكل، بل واجبنا أن نبحث لها عن حلول، ولا يجب أن نضع أنفسنا رهينةً للمرض الذي قد يصيبنا، بل يجب أن نحتضنه ونجعل منه وقودا متجددا لرغبتنا العارمة في الحياة والشفاء والانتصار.
كل المستحيلات التي حاولت أن تحاصرنا، تذوب وتتلاشى أمام مقاومة صلبة نابعة من قرار داخلي لا يتراجع.
هذه العبارات ليست مجرد خواطر عابرة، بل هي: صرخة من أرواح لا تُقهر ترى ما وراء العجز، ورؤية من عقل نيّر يرى ما وراء ستار المرض والألم، ورغبة من قلب موقن بأن الحياة لا تُمنح بسُهولةً، بل تُصنع جهادا وصبرا.
إن النصر ليس مصادفة عشوائية، بل هو خطة محكمة بتوفيق من الله عز وجل، مبنية على إرادة لا تكلّ وعزيمة لا تملّ. والمستحيل نفسه يخرُّ ساجدا أمام من يملك السلام الداخلي، ويستحضر القوة الكامنة في أعماقه، ويُسلّح نفسه دائما وأبدا بأقصى درجات الأخذ بالأسباب.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق