شكلت التصريحات الأخيرة للكاتب الجزائري بوجدرة حول المفكر مالك بن نبي، في حواره مع حميدة عياشي في قناة الوطنية من خلال برنامج مسارات، صدمةً للكثيرين ممن يعرفون فكر ابن نبي وعمقه، فما قاله الكاتب والروائي بوجدرة، في وصف ابن نبي بـ "الرجعي والمتدين بالمعنى السلبي والسطحي الذي يتحدث فقط عن الصلاة والصوم والعبادات"، وتأكيده أنه "لم تكن له علاقة مع الإسلام الروحي بل مع الإسلام المادي"، ونفيه عنه صفة "المحلل والفيلسوف"، لا يتسق أبداً مع حقيقة هذا المفكر الفذ الذي أثرى المكتبة العربية والإسلامية العالمية بإنتاجه الفكري المتميز.
إن المتتبع لتصريحات بوجدرة، يجد نفسه أمام سؤال محير: هل يعقل أن يكون هذا الوصف لشخصية بحجم مالك بن نبي، الذي يعد أحد أبرز مفكري القرن العشرين في العالم الإسلامي وربما في العالم كله، نابعاً من جهل حقيقي بفكره؟ أم أنه مجرد حكم مسبق، ينم عن قطيعة عميقة بين المثقفين الجزائريين، وهيمنة التصنيفات الإيديولوجية التي تلغي الموضوعية وتمنع الاعتراف بالاختلاف؟
من الواضح جداً أن بوجدرة، عند استماعك لحديثه يقعد في نفسك أنه لم يقرأ لابن نبي أي كتاب بعمق، فالصورة التي رسمها بوجدرة لابن نبي أقرب ما تكون إلى أحد أئمة السلفية التقليدية، لا إلى مفكر عقلاني وصاحب رؤية تنويرية ك كمالك بن نبي، وكيف يمكن لمفكر كبوجدرة، أن يصف ابن نبي بالسطحية ويحصر اهتماماته في العبادات، في حين أن جل كتاباته تتناول قضايا الحضارة والتخلف، شروط النهضة، ودور الإنسان في بناء مجتمعه، وصولاً إلى نظريته الشهيرة عن "القابلية للاستعمار" التي وافقه عليها بوجدرة نفسه، ليقع في تناقض صارخ!
إن مالك بن نبي لم يكن قط مفكراً سطحياً أو حبيس الزاوية الضيقة للعبادات، لقد كان فيلسوفاً ومحللاً عميقاً، سعى جاهداً لتشخيص أمراض الأمة الإسلامية وتقديم حلول جذرية لنهضتها، ولم يكن يدعو إلى حكم الدول العربية بالإسلام بمعزل عن شروط التقدم والوعي الحضاري، بل كان يرى أن الإسلام يمكن أن يكون محركاً للنهضة إذا تم فهمه في سياقه الحضاري الشامل، بعيداً عن الجمود والتقليد الأعمى، فكتاباته مثل "شروط النهضة"، "مشكلة الثقافة"، "ميلاد مجتمع"، و"دور المسلم ورسالته" تشهد على عمق فكره واتساع أفقه.
الغريب في الأمر، أن العديد من الباحثين والكتاب غير الجزائريين، من مختلف المرجعيات الفكرية، قد كتبوا عن مالك بن نبي بموضوعية وإنصاف، وتناولت دراساتهم جوانب متعددة من فكره، سواء بالنقد البناء أو بالتأييد، لكنها في مجملها عكست صورة حقيقية وعادلة لمكانته كمفكر أصيل.
، فهل يعقل أن يكون هؤلاء جميعاً قد أخطأوا في فهم ابن نبي، في حين أن بوجدرة وحده قد أصاب الحقيقة؟
إن هذه التصريحات، لا تكشف فقط عن جهل محتمل بفكر مالك بن نبي، بل تسلط الضوء على آفة خطيرة يعاني منها بعض المثقفين في الساحة الثقافية الجزائرية، وهي هيمنة الأحكام المسبقة والتصنيفات الإيديولوجية التي تعيق أي حوار بناء أو تقييم موضوعي للآخر، فبدلاً من الاعتراف بالاختلاف والحق فيه، يسود منطق الإقصاء والتصنيف الذي يقسم المثقفين إلى "تقدمي" و"رجعي"، أو "يساري" و"إسلامي"، في تشويه واضح للحقيقة وتقويض للموضوعية، فمالك بن نبي، كأي مفكر، ليس معصوماً من الخطأ، وقد يكون له ما يؤخذ عليه، ولكن النقد البناء والاختلاف بشرف هما أساس التقدم الفكري، ولا يحق لأحد، أياً كان، أن يصادر حق الآخر في الفكر والرأي أو يتدخل في خياراته الإيديولوجية، ولكن في المقابل، من الواجب على المثقف، وقبل أن يطلق الأحكام، أن يتحرى الدقة والموضوعية وأن يستند إلى معرفة حقيقية بفكر من ينتقده، بدلاً من الاعتماد على تصورات مسبقة قد تكون مجحفة أو بعيدة كل البعد عن الحقيقة، إن التشويه المتعمد أو غير المتعمد لرموز فكرية بحجم مالك بن نبي، لا يضر بسمعة المفكر فحسب، بل يضر بالثقافة والمجتمع بأكمله، والسؤال الذي يمكن أن نكرح لنثري النقاش، هل تعتقد أن مثل هذه التصريحات تعيق تطور النقاش الفكري في الجزائر؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق