تتجلّى عظمة الإسلام في كونه دينا يدعو إلى الرحمة والرفق والتسامح، وينبذ كل أشكال الغلظة والتعصب. فخلافا لما قد يتصوّره البعض، ليس الإسلام دينا يقوم على الإكراه أو التشدد، بل هو نور يهدي القلوب إلى الفضيلة والتعايش السلمي، كما أشار الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران: 159]. هذه الآية الكريمة ليست مجرد توجيه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي قاعدة أساسية في التعامل الإنساني، تؤكد أن النفوس تنفر من الشدة والفظاظة وتميل إلى اللين والرحمة.
الرفق في القرآن والسنة :
لقد أولى القرآن الكريم أهمية قصوى للرفق في التعامل مع الآخرين، فدعا إلى "قولوا للناس حسنًا" [البقرة: 83]. هذه الدعوة ليست مقتصرة على المسلمين فحسب، بل تشمل البشرية جمعاء، وتؤسس لمبدأ التعايش السلمي والاحترام المتبادل، فالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة هي أساس الدعوة إلى الله، وليست الغلظة أو الإكراه، كما أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالأمثلة التي تجسد هذا المبدأ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس وأكثرهم رفقا، حتى مع من أساء إليه، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" (رواه مسلم). هذا الحديث النبوي الشريف يؤكد أن الرفق هو جوهر الأخلاق الحسنة، وهو ما يضفي الجمال على أي سلوك أو تصرف، ومن أروع الأمثلة على رفقه صلى الله عليه وسلم، قصة الأعرابي الذي بال في المسجد. فبدلاً من أن ينهره الصحابة بشدة، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوه حتى يقضي حاجته، ثم أمر بصب دلو من ماء على بوله، وقال لهم: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (رواه البخاري)، هذا الموقف يجسد قمة الرفق والحكمة في التعامل مع الجاهل، ويعلمنا أن التيسير والتعليم باللين أولى من التعنيف والتنفير.
الحوار بالتي هي أحسن :
الإسلام هو دين الحوار الهادئ والبناء، لا دين تكميم الأفواه أو فرض الرأي بالقوة، يقول تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125]. هذه الآية ترسم المنهج الأمثل للدعوة إلى الله، وهو منهج يقوم على الحكمة في الطرح، والموعظة الحسنة التي تلامس القلوب، والجدال بالتي هي أحسن الذي يعتمد على المنطق السليم والاحترام المتبادل، حتى وإن اختلفت وجهات النظر، فالمناقشة البناءة التي تسعى إلى إقناع الآخر لا إلى قهره هي جوهر الدعوة الإسلامية.
ولقد سار الصحابة والتابعون على هذا النهج القويم، فعندما أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن، قال لهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (رواه البخاري ومسلم). هذه الوصية النبوية التي نقلها عمر رضي الله عنه تلخص منهج الدعوة الذي يقوم على التيسير والتبشير والتعاون، بعيداً عن التعسير والتنفير والاختلاف، ومن القصص الدالة على ذلك، ما روي عن الإمام الشافعي رحمه الله، أنه قال: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ". وهذا يدل على أن الجدال في الإسلام ليس لغرض الانتصار الشخصي، بل لغرض إظهار الحق وإيصال الخير للناس.
التسامح والعفو :
يتجلّى التسامح في الإسلام كقيمة عليا، فهو دين يدعو إلى العفو والصفح وفتح صفحات جديدة، بدلا من ترسيخ الضغائن والأحقاد، وقد تجلّى ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عندما عفا عن أهل مكة بعد الفتح، وهو موقف تاريخي يجسد قمة التسامح والرحمة، فبعد سنوات من الأذى والاضطهاد والقتال، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً منتصراً، وقال لأهلها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". هذا العفو الشامل لم يسبق له مثيل في تاريخ الفتوحات، وأظهر للعالم أجمع سماحة الإسلام وعظمته.
ولم يقتصر التسامح على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل سار عليه الصحابة الكرام، فعندما فتح المسلمون بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أعطى أهلها "العهدة العمرية" التي ضمنت لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، ولم يجبر أحداً على الدخول في الإسلام، وهذا دليل ساطع على احترام الإسلام لحرية المعتقد والتسامح مع أتباع الديانات الأخرى.
التعامل مع الملحد : دعوة بالحكمة والرحمة
قد يتبادر إلى الأذهان سؤال حول كيفية التعامل مع من لا يؤمن بوجود الله أصلاً، الإسلام دين الرفق والحوار، يقدم الإرشاد في هذا الجانب أيضاً، فمبدأ (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) [البقرة: 256] هو أساس في العلاقة مع جميع الناس، بمن فيهم الملحدون، لا يجوز الإكراه على اعتناق الإسلام، ولا يحق للمسلمين الاعتداء على غير المسلمين لمجرد اختلافهم في المعتقد، فالتعامل مع الملحد يجب أن يكون قائماً على الحوار الهادئ والعلمي، بالتي هي أحسن، وهذا يعني تقديم الأدلة والبراهين العقلية على وجود الخالق، والرد على الشبهات بأسلوب مهذب ومقنع، قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت: 46]. وإن كانت هذه الآية في أهل الكتاب، فإن روحها تنطبق على التعامل مع أي طرف يختلف معنا في المعتقد، بمن فيهم الملحدون، و الهدف هو تبادل الأفكار ودعوة إلى الحق بالحكمة والبيان، لا بالاستعلاء أو التسفيه، ويجب أن يتخلل هذا التعامل الاحترام المتبادل للإنسانية، فبغض النظر عن المعتقد، يبقى الإنسان كائناً كريماً خلقه الله، ويستحق المعاملة الحسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودي مرت به، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: "أليست نفسا؟" (رواه البخاري)، هذا الموقف النبوي يظهر عظمت احترام النبي صلى الله عليه وسلم للإنسانية بغض النظر عن الدين أو المعتقد، لا يعني عدم الإيمان أن نسقط عن الشخص حقه في المعاملة الطيبة والعدل.
إن دين الإسلام ليس دينا يبرر التعصب الأعمى أو يغذي الكراهية، بل هو دين يدعو إلى التفكير العميق وإعمال العقل، ويحث على احترام الاختلاف، هو دين السماحة التي تتجلى في كل جوانب الحياة، من التعامل مع الأهل والجيران إلى العلاقة مع غير المسلمين، وحتى مع من لا يؤمن بوجود الخالق.
في الختام، إن الإسلام يمد يده بالسلام والرحمة، ويدعو إلى مجتمع يقوم على التعاون والمودة، حيث يجد كل إنسان مكانه في ظل العدل والإحسان، بعيدا عن الفظاظة والتعصب. فهل لنا أن نتمسك بجوهر ديننا السمح ونقدمه للعالم على حقيقته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق