الخميس، 28 أغسطس 2025

نداء الضمير في دروب الحياة

في رحاب هذه الحياة الفسيحة، تتشابك دروبنا وتتعدد مساراتنا، لكن يظل هناك صوت خفيّ يتردد صداه في أعماقنا، هو نداء الضمير. هذا الصوت الذي لا ينام، هو بوصلة الروح التي توجهنا نحو الخير والنور، إنه ليس مجرد فكرة مجردة، بل هو حقيقة تتجلى في ثلاثة أبعاد رئيسية تشكل نسيج وجودنا الإنساني.

​الضمير الإنساني: منبع الحب والخير

​إن أول وأسمى تجليات الضمير هو الضمير الإنساني؛ هذا النداء الذي يدعونا إلى أن نُحب لغيرنا ما نُحب لأنفسنا، إنه ليس شعارًا يُرفع، بل هو فعل يُمارس، وشعور يُحيا، حينما ينبض القلب بحب الآخرين كما ينبض بحب الذات، تزول حواجز الأنانية، وتتلاشى ظلال الحسد، عندها يصبح فرح الآخرين فرحا لنا، وألمهم ألما يمسنا، هذا الشعور العميق بالوحدة مع الآخرين هو الذي يدفعنا لمد يد العون لمن يحتاج، ومسح دمعة من يتألم، ومشاركة بسمة من يفر، إنه أساس التراحم والتعاطف، وحجر الزاوية في بناء مجتمع إنساني متآلف.

​الضمير المهني: إتقان العمل وإخلاص السعي

​أما البعد الثاني فهو الضمير المهني؛ هذا الضمير الذي يفرض علينا أن نجتهد في تأدية عملنا على أكمل وجه، وأن نخلص في سعينا، وأن نتقن كل ما نقوم به، فالعمل ليس مجرد وسيلة للرزق، بل هو رسالة نؤديها، وبصمة نتركها في هذا العالم، إن الضمير المهني يدعونا إلى أن نتحمل مسؤولياتنا بكل أمانة وشرف، وأن نقدم أفضل ما لدينا، لا خوفا من رقيب، بل إيمانا بأن إتقان العمل هو عبادة، وأن الإهمال فيه هو خيانة للذات وللآخرين، إن العمل الذي يتقنه صاحبه بضمير حيّ، لا يكتفي بتحقيق النجاح المادي، بل يمنحه إحساسا عميقا بالرضا والفخر، ويجعل منه شعلة تضيء دروب الآخرين.

​الضمير الأخلاقي: العدل والعفو والسمو

​وأخيرا، يأتي البعد الأعمق، وهو الضمير الأخلاقي؛ هذا الضمير الذي يحصننا من الظلم ويدعونا إلى العفو، إنه الحارس الذي يمنعنا من أن نمد أيدينا لسلب حق أحد، أو أن نطلق ألسنتنا لتشويه سمعة بريء، إن الضمير الأخلاقي يجعلنا نرفض الظلم بكل أشكاله، حتى لو كان في ذلك مصلحة شخصية لنا، والأسمى من ذلك، هو أنه يدفعنا إلى العفو عمن ظلمنا، فالعفو ليس ضعفا، بل هو قوة، وهو سمو بالنفس فوق رغبة الانتقام، إن الإنسان الذي يعفو عن من أساء إليه، لا يتنازل عن حقه، بل يرتفع بروحه إلى مستوى لا يستطيع الظالم بلوغه، ويقطع دائرة الكراهية والانتقام.

​إن هذه الأبعاد الثلاثة للضمير ليست منفصلة، بل هي حلقات متصلة تشكل سلسلة واحدة من القيم الإنسانية النبيلة، فالضمير الإنساني يولد الحب، والضمير المهني يترجم هذا الحب إلى عمل نافع، والضمير الأخلاقي يحصن هذا العمل ويطهره من شوائب الظلم.

​فلنستمع جيدا إلى هذا الصوت الخفيّ الذي يسكننا، ولنجعله دليلنا في كل خطوة نخطوها، فبهذا الضمير، نرتقي بأنفسنا، ونبني مجتمعا أكثر عدلا وإنسانية، ونترك خلفنا أثرا طيبا لا يمحوه الزمن.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق