يَا سَائِلًا عَنْ حُلُمِ الأَنْبِيَاءِ، وَعَنْ قُلُوبٍ تَنَزَّلَتْ فِيهَا الْوَحْيُ، وَعَنْ رُوحٍ تَجَسَّدَ فِيهَا الْحُبُّ وَالرَّحْمَةُ، قِفْ وَتَأَمَّلْ فِي سِيرَةِ مَنْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَجَمَالُهُ مِنْ نُورِ السَّمَاءِ، مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَا يَكْفِي الْقَوْلُ أَوْ الْكِتَابَةُ لِوَصْفِهِ، فَهُوَ كَالْبَحْرِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْكَلِمَاتُ، وَكَالشَّمْسِ لَا يُحْجُبُهَا الْغُبَارُ.
كَانَ خُلُقُهُ نَسِيجًا مِنْ خَيْطِ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ فِي شَبَابِهِ وَقَبْلَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الصَّادِقُ الأَمِينُ، لَمْ تُغَيِّرْهُ الدُّنْيَا بِزُخْرُفِهَا، وَلَمْ تُغْرِهِ الْقُوَّةُ بِسَطْوَتِهَا، فَقَدْ ظَلَّ عَلَى عَهْدِهِ مَعَ رَبِّهِ وَمَعَ نَفْسِهِ، يَتَعَامَلُ مَعَ الْجَمِيعِ بِتَوَاضُعٍ وَإِكْرَامٍ، لَقَدْ تَمَثَّلَتْ فِيهِ الرَّحْمَةُ، لَمْ يَكُنْ عَابِسَ الْوَجْهِ أَوْ قَاسِيَ الْقَلْبِ، بَلْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفا رَحِيما، وَلِلْكُفَّارِ دَاعِيا إِلَى الْهُدَى بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حَقِّهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وَهِيَ شَهَادَةٌ مِنْ اللَّهِ لَا يُضَاهِيهَا شَيْءٌ.
لَقَدْ كَانَ يُقَابِلُ الإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، وَالْجَهْلَ بِالْحِلْمِ، وَالْغَضَبَ بِالْكَظْمِ، وَفِي قِصَّةِ الطَّائِفِ، حِينَ قَابَلَهُ أَهْلُهَا بِالْحِجَارَةِ وَالطَّرْدِ، جَاءَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْجَبَلَيْنِ، فَرَفَضَ وَقَالَ: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". هَذَا هُوَ الْعَفْوُ، وَهَذَا هُوَ الْأَمَلُ، وَهَذَا هُوَ حُبُّ الْهِدَايَةِ لِلنَّاسِ، لَا لِأَنْفُسِهِمْ بَلْ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ.
وَفِي بَيْتِهِ، كَانَ سَيِّدُ النَّاسِ أو أَعْظَمَهُمْ فِي خُلُقِهِ، لَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدا، وَكَانَ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ، يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَرْقَعُ حِذَاءَهُ، وَيَعْمَلُ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُهُمْ، لَمْ يأْخُذْهُ الْغُرُورُ، وَلَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ الْبُسَطَاءِ، وَمَعَ فَقْرِهِ، كَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ يَدا، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَلَا يَبْخَلُ عَلَى مُحْتَاجٍ، كَانَ كَالسَّيْلِ الَّذِي يَرْوِي الْأَرْضَ بِمَاءِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ.
لَقَدْ بَنَى مُجْتَمَعا عَلَى أَخْلَاقٍ، لَمْ يَبْنِهِ عَلَى ثَرَاءٍ أَوْ سُلْطَةٍ، فَقَدْ عَلَّمَ أَصْحَابَهُ كَيْفَ يَكُونُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَكَيْفَ يَتَعَامَلُونَ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْمُرُوءَةِ، فَنَشَأَ جِيلٌ لَمْ يَرَ التَّارِيخُ مِثْلَهُ فِي تَرْفِيعِ الْأَخْلَاقِ وَرَوْعَتِهَا.
فَالْيَوْمَ فِي زَمَنٍ كَثُرَ فِيهِ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهِيَةُ، وَانْتَشَرَ فِيهِ الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ، نَحْتَاجُ إِلَى سِيرَتِهِ، لِنَتَعَلَّمَ مِنْهَا الصَّبْرَ وَالْحِكْمَةَ، وَنَحْتَاجُ إِلَى خُلُقِهِ، لِنُصْلِحَ بِهَا مَا فَسَدَ مِنْ قُلُوبِنَا وَأَعْمَالِنَا.
وَفي النِّهَايَةِ، لَا يَكْفِي أَنْ نَقُولَ: "أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ"، بَلْ يَجِبُ أَنْ نَجْعَلَ هَذَا الشُّهُودَ حَيَاةً نَعِيشُهَا، وَخُلُقا نَتَّصِفُ بِهِ، وَسَبِيلا نَمْشِي عَلَيْهِ، لِنَكُونَ حَقًّا عَلَى هُدَى مِنْ رَبِّنَا، فَلنَعُودُ إِلَى مَنْهَلِهِ الصَّافِي، وَإِلَى أَخْلَاقِهِ الْعَظِيمَةِ، لِنُرِيَ الْعَالَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ دِينا فَقَطْ، بَلْ هُوَ حَيَاةٌ، وَسَعَادَةٌ، وَأَخْلَاقٌ؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق