في زحام الحياة، وتوالي الأيام، تتقلب القلوب بين سعْيٍ وتمنٍ، بين عطاءٍ وأخذ، وقد تظن النفس أن ما بذلت فيه جهدها سيبقى، وأن ما تعلقت به سيكتب له الخلود، ولكن سرعان ما يظهر ميزان خفي، يزنُ الأعمال، ويصنف النوايا، ليُظهر الحقائق على حقيقتها، ويُميّز الخيط الرفيع بين ما كان لله، وما كان لغير الله.
"ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل." ليست مجرد حكمة عابرة، بل هي قانون كوني، يعكس جوهر كل عمل، وصدق كل نية، إن العمل الذي يبتغي به صاحبه وجه الله، يكون أشبه بنهرٍ جارٍ، لا ينضب معينه، ولا يتبخر ماؤه، قد يُنسى اسمه في الأرض، ولكن ذكره يرتفع في السماء، وبركته تفيض على الأرواح، فكل عطاء خالص، وكل كلمة طيبة، وكل جهد مخلص، يجد طريقه إلى قلوب الناس وأرواحهم، لأنه لا يرتبط بمصلحة زائلة، ولا يخضع لتقلبات الأهواء، هو باقٍ ببقاء النية، ومستمر باستمرار الإخلاص، أما ما كان لغير الله، فهو أشبه بفقاعة صابون، تلمعُ في ضوء الشمس لبرهة، ثم تتلاشى دون أثر، قد يبدو في أوله براقا، وقد يجلب لصاحبه الثناء والمديح، ولكن بمجرد أن تنطفئ شمعة المصلحة، وتغيب شمس الرغبة، يذوي وينقطع، فالجاه الذي يسعى إليه المرء لنفسه، والمال الذي يجمعُه ليتفاخر به، والمحبة التي يطلبها لمجرد الإعجاب، كل هذا لا يلبث أن ينفصل وينتهي، يتبخر الثناء، وتزول الأموال، وتبقى القلوب خاوية من أي رابط حقيقي.
إنها دعوة عميقة للنظر في دواخلنا، ومراجعة نياتنا، فليس المهم كم أنجزنا، بل الأهم لماذا أنجزنا؟ هل كان عملنا لله أم لأجل دنيا فانية؟ هل كان عطاؤنا خالصا أم كان بهدف الحصول على مقابل؟ في النهاية، كل ما نبنيه على أساسٍ غير الإخلاص، هو بناءٌ هشٌّ، سينهار مع أول رياح قوية، أما ما نبنيه على أساس الإيمان والنية الصافية، فهو بنيانٌ راسخ، لا تهزه العواصف، ولا يمحوه الزمان.
دعونا نجعل كل سعينا خالصا لله، وكل بذلٍ منا خالصا من أجل رضاه حينها سنرى كيف تدوم أعمالنا، وتتصل آثارها، وتثمر في حياتنا وحياة من حولنا، لأنها كانت لله، وما كان لله دام واتصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق