الأربعاء، 24 ديسمبر 2025

خلف أسوار الغفلة: حينما يتحول "غياب الأب" إلى جسرٍ لعبور الذئاب

في أدبيات التربية القديمة، كان يُنظر إلى الأب على أنه "عمود الخيمة"؛ تعبيرٌ بسيط في كلماته، لكنه عميق في دلالاته. فإذا مال العمود، سقط السقف على رؤوس الجميع. واليوم، ونحن نشهد تصدعاً في بنية الكثير من الأسر، تبرز أمامنا صورة رمزية مرعبة: ذئبٌ يتحين الفرصة، وفردٌ يميل عن الطريق، وراعيٍ غافلٍ غلبه النعاس أو الانشغال. إن هذا الثالوث ليس مجرد صدفة قدرية، بل هو معادلة هندسية لانهيار المجتمع، تبدأ حلقاتها من داخل "المنزل".

​الذئاب الرقمية.. حين يصبح الخطر داخل غرف النوم

​لم يعد "الذئب" اليوم كائناً يعيش في الفلوات أو يتربص خلف الشجيرات، بل أصبح "ذئباً رقمياً" عابراً للقارات، يخترق جدران المنازل المحصنة عبر شاشات الهواتف. إن كل فكر منحرف، وكل مروج للسموم، وكل متربص بالبراءة، هو ذئب جائع ينتظر تلك اللحظة التي يشعر فيها الابن أو الابنة بـ "الفقد العاطفي" أو "التيه الفكري". الذئاب المعاصرة لا تنهش الأجساد، بل تنهش القيم والهوية، وهي تدرك تماماً أن مدخلها الوحيد هو تلك "النعجة" التي انحرفت عن سياج الرقابة الأسرية بحثاً عن اهتمام زائف أو انتماء مفقود.

​انحراف النعجة.. صرخة احتجاج لا يبصرها أحد

​خروج الابن عن مسار الأسرة أو "انحرافه عن القطيع" ليس دائماً رغبة في الشر، بل هو في الغالب "نتيجة" لا "سبب". عندما يشعر الفرد داخل الأسرة بأنه مجرد رقم في كشف المصاريف، وليس روحاً تحتاج إلى احتواء، يبدأ بالبحث عن بديل. هذا الانحراف الصغير في بدايته —سواء كان انطواءً، أو تغيراً في السلوك، أو تمرداً على المبادئ— هو صرخة استغاثة موجهة للراعي. لكن المأساة تقع عندما يواجه الراعي هذه الصرخة بـ "العمى الاختياري"، متجاهلاً أن الشروخ الصغيرة في جدار البيت هي التي تسمح للرياح العاتية بالدخول.

​خطيئة الراعي: هل الأبوة مجرد "صراف آلي"؟

​إن أخطر ما يواجه مجتمعاتنا اليوم هو تحويل دور الأب إلى "راعي مالي" فقط. يظن الكثير من الآباء أنهم يؤدون أماناتهم على أكمل وجه بمجرد توفير الرفاهية المادية، متناسين أن "الرعاية" في أصلها هي "الولاية" و"الحماية".

​إن "غفلة الراعي" هنا ليست بالضرورة نوماً حقيقياً، بل قد تكون انشغالاً بالنجاح المهني على حساب البناء الإنساني، أو ثقة مفرطة في غير محلها، أو هروباً من المسؤولية التربوية وإلقائها على عاتق الأم وحدها أو المدرسة. عندما يغفل الأب عن لغة العيون، وعن نبرة الصوت المكسورة، وعن غياب الابن الروحي وهو جالس على المائدة، فإنه في الحقيقة يفتح أبواب الحظيرة للذئاب، ويمنحها "الشرعية" للافتراس.

​المجتمع تحت المجهر: الانهيار يبدأ من الداخل

​لا ينبئنا التاريخ بأن مجتمعاً انهار بسبب قوة أعدائه الخارجية فحسب، بل كانت نقطة الانهيار دائماً هي "تفكك الخلية الأولى". الأب هو صمام الأمان؛ فإذا استيقظ الراعي، تماسك القطيع، وإذا تماسك القطيع، تكسرت أنياب الذئاب على أسوار وحدته.

​إن الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم، من تصاعد في معدلات الجريمة، والانحلال الأخلاقي، وضياع الهوية لدى الشباب، هو نتيجة حتمية لـ "لحظة غفلة" طالت أكثر من اللازم. إننا بحاجة إلى ثورة وعي تعيد للأب دوره كـ "قائد استراتيجي" للأسرة، لا مجرد "ممول" لها.

​الخاتمة: الاستفاقة قبل فوات الأوان

​إن الكارثة التي نتحدث عنها ليست قدراً محتوماً، بل هي تنبيه لكل أب لا يزال يملك فرصة الإصلاح. إن استيقاظ الراعي اليوم، وانتباهه لتلك "النعجة" التي بدأت تبتعد، وتأمين السور ضد "الذئاب" المتربصة، هو السبيل الوحيد لإنقاذ المجتمع من الانهيار.

​تذكروا دائماً: إن الذئب لا يهاجم أبداً قطيعاً يقف خلفه راعيٍ عينه لا تنام، وقلبه لا يغفل، ويده تمتد بالحب قبل الحزم.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق